القصّةُ القصيرةُ: مهارةُ السرد

ثقافة 2023/03/05
...

 محمد صابر عبيد

يوصف فن القصة القصيرة عند الكثير من نقاد السرد في العالم -على صعيد كفاءة الأدوات والتشكيل الجماليّ السرديّ- بأنه أحد أبرز أنواع الفنون السردية المعاصرة وأهمها، وأكثرها صعوبة وتعقيداً في الوقت نفسه، على الرغم من أن فن الرواية الشقيق اللدود المضاهي لفن القصة هو الذي أخذ الحظوة السردية الكبرى على مستوى الاهتمام والكتابة والتداول والحفاوة النقدية في واقع التلقي الراهن، إلى الدرجة التي وصف فيها هذا العصر الأدبيّ انسجاماً مع تسمية العصور باسم الأجناس الأدبية بـ (عصر الرواية) بلا منازع أو منافس من أي جنس أدبي آخر، ولم يترك لفن القصة سوى حيّز ضيّق يكاد لا يرى في ظل الاندفاع الكبير لدى الأدباء جميعاً نحو الرواية.

يعدّ فنّ القصة القصيرة استناداً إلى طبيعته ومعطياته وحساسياته فناً نوعياً مهارياً عالي الصنعة والدقة والفعالية والكثافة، يحتاج إلى التوغّل السليم في مساحته الإبداعيّة إلى مهارة تقانية كبيرة ذات كفاءة أدواتيّة بالغة في إتقان اللعب باللغة القصصيّة وصنعتها، والتصرّف العارف بفنون السرد وخصائصه وآليّاته وضروبه ومساحاته؛ على النحو الذي ينتج نصاً قصصيّاً مثيراً وخصباً بنسيج سردي بارع الأداء وفائق 

الخصوصيّة. 

وقد لا تتأتى هذه المهارة النوعية المتفرّدة للكثير ممن يمارسون هذا النوع المميّز من الكتابة السرديّة، لهذا يمكن القول بأنّ القصص التي تحقّق حضوراً كبيراً في منطقة التلقّي أقلّ بكثير من تلك القصص التي لا تتمكّن من الوصول المباشر إلى ذائقة المتلقي الجماليّة على أكمل وجه وأبهى صورة، لذا فإنَّ حظّ النجاح في كتابة قصة قصيرة ذات المواصفات التقانية والجمالية العالية أقلّ من حظّ النجاح في الضروب السرديّة الأخرى.

بوسعنا في هذا السياق إدراك الإهمال الكبير الذي تعانيه القصة من طرف المدوّنة النقديّة والممارسة القرائيّة قياساً بالاهتمام الواسع والعميق بفنِّ الرواية، إذ نعتقد بأنّ نسبة إنجاز الكتب النقديّة التي تقارب الرواية -بشؤونها وشجونها وشواغلها وقضاياها- تفوق على نحو كبير جداً تلك الكتب النادرة التي تقارب القصة القصيرة، يقابله في ذلك صدور آلاف الروايات سنويّاً مقابل أعداد قليلة من المجموعات القصصيّة لا تصلح للمقارنة، ونتج عن هذا انصراف الاهتمام النقديّ والقرائيّ العام شبه الكليّ نحو فنّ الرواية على حساب فنّ القصة. 

يأتي على هذا الأساس اهتمام هذا ثلّة عارفة من النقاد العرب بفنّ القصة القصيرة وكفاءة أدواته العاملة وجمالياته السرديّة؛ في منطقة إبداعيّة معينة وذات طبيعة خاصة من مناطقه وعلى أكثر من صعيد، في سياق العمل على إنصافه نقديّاً أولاً، فضلاً عن التعبير عن ذائقة فنيّة وجماليّة منصِفة تتميّز بالحسِّ الأدبيّ الشخصيّ لهذا النوع من الفنّ السرديّ المميز الذي عبّروا عنه في مناسبات كثيرة، لما يحتويه هذا الفنّ من جمالية ثرّة وحساسية بالغة في تشغيل طاقة الحكي وإمكاناته وآليّاته إلى أقصى حدّ ممكن، على النحو الذي ينتج نصّاً سرديّاً مثيراً ومدهشاً وعميقاً على المستويات كافة، من حيث فضائه التشكيليّ، وأسلوبيته الفنيّة، وطرائق تعبيره الأدائيّ، وتنوّع مناخاته الجماليّة والإبداعيّة، وقدرته الفائقة على التأثير في منطقة التلقي والتداول، من أجل توكيد قوّة حضوره في المشهد.

إنَّ فنّ القصة القصيرة على وفق هذه المعطيات الموضوعيّة الثريّة هو فنّ مثير ومتميّز فائق اللذة ـ كتابةً وتلقياً ـ لما ينطوي عليه من الحذق والهندسة والكثافة والتصميم والاقتصاد الشديد والتركيز العالي في اللغة والصورة القصصيّة والإيقاع السرديّ ـ تشكيلاً وتعبيراً وتدليلاً-، على النحو الذي يعكس جماليات استثنائية مميّزة في عموم هذه المسارات المتداخلة والمتقاطعة والمتشابكة (التشكيل والتعبير والتدليل والتداول). 

وهو يفيد ويأخذ ويستعير في هذا السياق من الفنون الأدبيّة والجميلة المتاحة كافة في سياق التداخل الأجناسيّ الممكن، إذ بوسعه توظيف إمكانات عديدة من فنّ الرسم وتقانات السينما وآليّات المسرح وخصائص الشعر وفضاءات العمارة وغيرها، فهو فنّ منفتح بأفقٍ عالٍ على سائر الفنون الأخرى بقابلية فذّة ورحبة ودينامية وديمقراطية وسهولة وتفاعل، تعتمد على مهارة القاص وحساسيته وإدراكه وقابليته وفهمه في ترتيب ذلك. 

غير أنَّ هذه الإفادة من الفنون الأخرى التي يبدو أنّه لا غنى عنها اليوم للكثير من فنون الإبداع وصنوفه وأنواعه وضروبه، ومهما غامرت في التوظيف والتداخل النصِّي والأخذ والاستعارة من الفنون الأخرى المجاورة والبعيدة، فإنّها يجب أن تُبقي النصّ القصصيّ على مستوى خصوصية الجنس الأدبيّ دائماً في دائرة القصة القصيرة، لأنّ تشتّت النوع القصصيّ في ظلّ حساسية الأخذ ينتهي حتماً إلى الإخفاق والفشل وضياع الهوية الأجناسية.

إنَّ الكتب النقديّة التي تنشغل بقضايا وشواغل وفضاءات فنّ القصة القصيرة يجب أن تذهب باتجاه نماذج قصصيّة منتخبة من طبيعة معينة ورؤية معينة، بحيث يمثّل هذا العمل النقديّ الأصيل نوعاً من ردّ الاعتبار النقديّ الجماليّ لفنّ أصيل ومثير وحيويّ عالي الرشاقة والأناقة والجمال، من أجل الوقوف على ما هو متاح بحسب النصوص من مهاراته الكتابيّة الفريدة، وخصائصه الفنية المميزة، وجمالياته التشكيلية العالية في سياق تجربة نوعية مميّزة وخاصّة تمثّلت في تلك القصص ذوات النكهة الخاصة والتجربة الخاصة والطبيعة الخاصة، وقد أفرزت علاماتها ورؤياتها وخصائصها الجمالية النوعية استناداً إلى حساسيتها وطبيعتها وفرادتها.