بينوكيو دل تورو.. للكذب وجهٌ إيجابيّ

ثقافة 2023/03/06
...

  باسم سليمان


قد تكون أهم ثيمات قصة كارلو كولودي "بينوكي"و، أن أنفه ينمو على أثر أية كذبة يقترفها. قام كارلو كولودي بتحوير النسخة الأولى التي أبدعها عام 1881 - 1882 من حياة الدمية الخشبية التي شنقت في نهايتها، جزاء للحياة السيئة التي عاشتها. جاء هذا التغيير ذلك بناء على اقتراح من رئيس تحرير الجريدة، الذي كان كولودي ينشر فيها قصة "بينوكيو" مسلسله، بأن تعدل نهاية "بينوكيو" الفجائعية، نتيجة شهرتها الواسعة والمتابعة الكبيرة من قبل القرّاء، هكذا يصبح بينوكيو في نهاية القصة ولد طبيعيا..


 تم اقتباس قصة بينوكيو كثيرًا، ومع ذلك أراد المخرج غييرمو دل تورو أن يقدم قراءة أخرى، مع محافظته على الثيمات الأساسية للقصة، لكنّه في الوقت نفسه جادلها، كاشفا العنف المضمر فيها؛ وذلك لينتقد الأنساق الجمالية الأخلاقية المقوننة وما تفرزه من إقصاء اتجاه المختلف، والذي بثّ في قصة بينوكيو بشكل واضح. 

انطلاقا من هذه التساؤلات يشرع غييرمو بإنتاج فيلمه الجديد "بينوكيو" المصوّر وفق أسلوب إيقاف الحركة، وكأنّه باستخدامه لهذا الأسلوب الذي يعدُّ من أقدم أساليب تصوير الرسوم المتحركة كان يؤشِّر، إلى أنّ بقاءنا عند أفكار معينة من دون تحريكها وفق مقتضيات تطور الحياة، سيجعلنا جامدين، لا نرى بأنّ التغيّر هو سمة الحياة الحقّة.

تُضاء شاشة غييرمو عن دمية تمثل ولدًا طبيعيّا يُدعى كارلو، تمَّ تصويره وفق ما يشتهي والده النجار جيبيتو لما يكون عليه الولد المثالي. وفي أحد المشاهد ينتقي الولد كوز صنوبر، لكنَّ أباه يقول له: ابحثْ عن الكوز الكامل. وفي مشهد تال نرى النجار يتم صناعة تمثال للسيد المسيح على الصليب مع ابنه كارلو. وعندما ينتهي العمل يعود الولد إلى داخل الكنيسة ليأتي بالكوز الذي نسيه، لكن قذيفة تسقط من إحدى الطائرات على الكنيسة، وتؤدي إلى موت الطفل. يفجع الأب بموت ابنه ويدفنه، ويزرع قرب قبره كوز الصنوبر،  تنمو شجرة صنوبر مظلّلة قبر كارلو وتمر الأيام وفي لحظة غضب وجنون وسكر، يقطع النجّار صانع الدمى شجرة الصنوبر، ليصنع منها دمية لابنه. ولأول مرّة ينحت النجار دمية ناقصة فيها الكثير من فرانكشتاين إيميلي برونتي، بأنف طويل وأذن واحدة ومسامير نافرة، وفي مكان القلب فتحة يسكنها صرصار. لم يكن بينوكيو دل تورو رافضًا لطبيعته الخشبية، لذلك عندما خاطب المجتمعين في الكنيسة المتعجّبين من دمية تتحرك من دون خيوط، بأنّه سيصبح ولدًا حقيقيًا نما أنفه دلالة على كذبه.

عبر هذه الخلفية يمضي غييرمو مع بينوكيو إلى زمن الفاشية الإيطالية، بما تمثّله من قمع وكبت، حيث يقع بينوكيو في حبائل مالك سيرك يقنعه بأنّ الناس تحبّ الدمى المقيّدة بخيوط. وبما أنّ بينوكيو يبحث عن قطيع يشبهه بعد أن رُفض كدمية خشبية، فيجد بالسيرك قناعه الجديد، بعدما نبذ وجهه الحقيقي. يعدّه مالك السيرك ليقدّم عرضًا يمجّد فيه الفاشية، لكن بينوكيو يثورعلى ذلك ويسخر من موسيليني. 

يقطع بينوكيو خيوطه، ولكنّه دمية تطارده يد عليا، تريد أن تسيطر عليه وتجعله كالقطيع البشري. هكذا يتم تجنيده، فهو الجندي المثالي لأنّه لا يموت، بل يظلّ قادرًا على العودة إلى الحياة في كل مرّة. رويدًا رويدًا يكتشف جيبيتو، بأنّ الأبوة هي أن تتقبل ابنك كيفما يكن، فيغادر بلدته بحثًا عن ابنه الخشبي. وبعد عدة مغامرات، تبتلع سمكة عجيبة كل من جبيبتو وبينوكيو والصرصار، ولم يكن من حلّ للنجاة منها، إلّا أن يكذب بينوكيو. وهنا يكتشف جيبيتو بأنّ للكذب وجهًا إيجابيّا. 

كان بينوكيو كلّما مات صعد إلى قاعة فيها جنّية تخبره، بأنّه بعد كل موت عليه أن يقضي وقتًا أطول لديها. وفي هذه المرّة يطلب منها أن تعيده سريعًا إلى الحياة، لأنّ أباه سيموت إن لم يسارع لإنقاذه. تخبره الجنّية التي هي أقرب لسفينكس أوديب، بأنّه إذا خالف مدّة الانتظار لديها، سيكون موته هذه المرّة أبديًا. لا يكترث بينوكيو لذلك، فهو يريد أن ينقذ والده. يصبح بينوكيو فانيًا، ولكنه يظلّ دمية خشبية يعيش مع والده حتى يموت. وبعدها ينطلق بينوكيو ليكتشف العالم من حوله.

في رواية فرانكشتاين لإيميلي برونتي يلتقي الكائن المرعب بأحد العميان، فلا يرتعب منه، بل يقبله كما هو، ويصبح صديقه، ويأخذه ليرى أسرته التي تهلع وترتعب من فرانكشتاين. وهنا يتحوّل فرانكشتاين إلى وحش لا يستكين حتى يقتل صانعه. لا يختلف بينوكيو عن فرانكشتاين، فكلاهما، مختلفان ومنبوذان، لكن أجزاء فرانكشتاين بشرية، وأجزاء بينوكيو خشبية؛ وفي هذا إشارة للعنف المتجذّر في الطبيعة البشرية التي رفضها بينوكيو. ما رغب غييرمو بقوله، بأنّ الاختلاف فضيلة، وهو ما يجمعنا ويجعلنا بشرًا. وما يفرّقنا ويبعدنا عن بشريتنا هو التشابه. 

بينوكيو من إخراج وسيناريو غييرمو دل تورو، وتمثيل: غريغوري مان، ديفيد برادلي، وكيت بلانشت وآخرين، إنتاج عام 2022.