بؤس النظريَّة.. وتجليَّات الفلسفةِ المضادة

ثقافة 2023/03/07
...

  فارس عزيز المدرس

مع التغيرات الحاصلة في طرائق التفكير وفلسفة العلم، وبظهور نظريات القراءة، والبلاغة الفائقة؛ فضلا عن التقدم في عِلم الأعصاب وعلاقاته بمستويات الإدراك؛ تنامى جدل حول قضية الفلسفة المضادة؛ بوصفها نوعاً مِن المناهضة لمناهج الفلسفة التقليدية ومحاكمتها؛ بالقياس إلى المعطيات التي نتجت عنها.

  بدايةً مِن الضروري التنويهُ إلى مَسألةٍ مهمَّة مَفادها: أنَّ الحديثَ عن الفلسفةِ المضادة Anti-philosophy - بوصفها محاكماتٍ للفلسفة بعمومها؛ بالاستناد إلى مفهوم الجدوى - لا يعني صحةَ ما تذهب إليه الفلسفةُ المضادة بالكليّة، كما لا يعني أنّ ما يصدرَ عن أصحابِها مِن آراء هو بالضرورةِ صدورٌ تلقائيٌّ؛ ليس له مؤثراتٌ تثيرُ أسئلةً على سلامةِ قصديّة الفلسفة المضادة نفسِها. أمّا الهدفُ مِن المقال فعرْضٌ وتحليلٌ مبسّط لمَرامي هذه النزعةِ وحدودها؛ ليس إلا.   يمكن تعريف الفلسفةِ المضادة بتلخيصِ رؤيتها التي مَفادها: لا يوجد تمييزٌ قاطعٌ بين الفلسفة والسفسطة، وبين العقل البلاغي وبين الجدل والعاطفة. وهذا ما سيثير أسئلةً منها: هل تعدُّ الفلسفةُ المضادة موقفاً ميتافلسفيِّاً مُحتملاً؟، وإذا كان الأمرُ كذلك؛ فما الذي يميّزها؟. وما هي تداعياتُها؟

في أحسن الأحوال يتكثّفُ طرحي على فكرةِ أنَّ الفلسفةَ المضادة ممكنة، ومن الأفضل تفسيرُها على أنها محاولةُ إعادةِ بناءِ الخطابِ الفلسفي على أسسٍ غير كلاسيكيّة؛ أي غير قائمةٍ على العقل والمنطق فحسْب؛ بل على مناهجَ تنتزع مِن الفلسفةِ سِمَتها التأكيديّة، وتتجنّبُ تعسفِ النظرية وأحاديتها. 

والفلسفةُ المضادة تعادي مفهومَ النظرية؛ بوصفه موقفاً قسريّاً، وفرض رؤىً لا مسوغاتٍ لها؛ تخرج بالفلسفة عن غاياتِها وجدواها. لذا هي تعْتدُّ كثيراً بالحدْسِ؛ بوصفه طريقاً مِن طرائق الإدراك؛ لا يقلّ قوةً عن الصرامةِ العقليّةِ ذاتِ الصبغة المنطقيّة. ومعارضةُ الفلسفة التقليديّة بهذه الكيفيةِ لا يفضي إلى مناهضةِ النظرية فحسبُ؛ بل ينتهي إلى نفي المنهجِ نفسِه. 

 لكن ما يسوّغ مشروعَ الفلسفةِ المضادة اعتبارُ المشكلاتِ الفلسفيّة مفاهيمَ خاطئةً يجب حلّها. وقد تتضمّن استراتيجيتها في حلّ الأخطاء الشائعة أشكالًا مِن النسبيّة أو الشكِّ أو العدميّة. 

هذه أهمّ سِمات الفلسفة المضادة، سواء المُعلنة منها؛ أو التي سيؤول إليها الأمرُ؛ حتى وإنْ رفض أصحابُها الاعتراف بذلك؛ فمقدماتُها تفضي إلى نفي المنهج والنظرية كلاهما، ولا بدّ.

لكن هل هذه النزعة جديدةٌ ؟، مِن المؤكَّد أنها قديمة؛ وقد عبَّرتْ عن نفسِها بصيغ مختلفةٍ؛ طيلةَ عصورِ المعرفة البشرية، ونجد بذورَها في الكثير مِن الآراء والشذراتِ السفسطائية، تماماً كما نجدها لاحقاً لدى نيتشيه، ثم هنري برجسون؛ في مذهبه المؤسَّسِ على الحدسيّة؛ بوصفِ الحدْسَ وسيلةً معرفيةً تقوم بالأصل على الشكوكيةِ بالعقل المحض. 

لكن يجب الانتباهُ إلى الفرقِ بين المذهب الإنكاري أو الفوضوي، وبين الفلسفة المضادة، مِن حيث كون الأخيرةَ لا تنكر المعرفةَ جملةً؛ بل تنكر النزعةَ المدرسية، والقسْرَ الذي تمارسه النظريةُ في جعل فروضِها أحكاماً مطلقة.

 ويمكن القولُ أنَّ آراء فيتجنشتاين، وتحديداً فلسفته الفوقيّة تشكّل اتجاهاً مناهضاً لأداتية الفلسفة؛ لا للفلسفة ذاتها؛ فهو يرفض الفلسفةَ كما تُمارس تقليدياً وحالياً، ويصرّ على أنّها لا تستطيع أنْ تعطينا معرفةً مؤهّلةً لتفسير سببِ وجودنا أو تحلّ مشكلاتنا الأخلاقية. ويرى أنه لا توجد عوالمُ تعدُّ دراستُها عملاً خاصاً بالفيلسوف. ولا توجد اكتشافاتٌ وحقائقُ يمكن إجراؤها دون الانفتاح على أساليب العلم. أمّا ادعاءُ إمكانيةِ الوصولِ إلى الحقائق (مِن على كرسيٍّ بذراعين) ومِن خلالِ مزيج مِن العقل الخالص والتحليل المفاهيمي؛ بغيةَ الوصولِ إلى موضوعٍ ما؛ وإعطاء نتائجَ حاسمة عنه؛ فلن تنتهي إلا إلى الإرباك والتفكير بالتمَنّي.

لذلك ووفقاً لـ فيتجنشتاين يجب على الفلسفةِ تجنبُ بناءِ النظريةِ؛ وحصرها في أنْ تكون مجردَ ضبطٍ علاجيّ يقتصر على كشفِ الافتراضاتِ غير المنطقية التي تستند إليها الاستنتاجات التي تؤدي إليها. وآراءُ فيتجنشتاين هذه في الحقيقة مُعادية للفلسفة؛ مِن حيث الإجراء لا مِن حيث الكينونة.

أرى أنّ ما تذهب إليه الفلسفةُ المضادة أمرٌ مَشروعٌ أحياناً؛ وله ما يبرّره؛ لكنها ستقع - وهي في خضمّ مناهضتها للنظرية - في مستنقعٍ يقوم على الإعمام والجزيمة. فنحن قد ننتقد النظريةَ ونبيّن عيوبَها وقصورَها، ونمنع النزعةَ الجزيمةَ التي فيها، لكنْ لا يحقُّ لنا رفضَها جملةً. فماذا يعني هذا؟ يعني أنّ ما لا يُدرك كله لا يُترك جله. والأولى تكثيفُ النظرِ في نظرياتِ المعرفة؛ للوصول إلى ضوابطَ للتفكير، ووضع حدودٍ ومقوّماتٍ للنظرية؛ لا نفيها بالكليّة.

  قد يستمر الفيلسوفُ برحلته في عالم الفلسفة، في وقت يكون عليه لِزاماً التنازلُ عن النظرةِ المُطلقة التي تبنّاها، إذ النظرية التي يشيدُ على أساسِها موقفَه قد لا تكون سوى فرضيّةٍ لا تملك المتانة، لكن التخلّي عن موقفه ربما يعرّضه لخطرٍ يتمثّلُ في انعدامِ الثقة والشعور بالفشل. فيلجأ إلى العنَت في دعم نظريتِه بمزيدٍ من الحجج، ليطوّعها للمقدماتِ التي اعتمدها؛ فيضطرُّ حينها إلى أنْ يوغلَ في البحث القسري عن حلولٍ تدعم النظرية؛ أكثر مِن سعيهِ إلى اكتشافِ الحقيقةِ، أو التسليم بالعجز في حال فشل نظريته. والخوف مِن الفشل قد يضطرّه إلى مواصلة مَسعاه بمساعدةِ فلاسفة سابقين، أو معاصرين له؛ يُجاريهم ويأخذ آرائهم بالكلية، أو ينتخبُ أو يقتطِعُ منها ما يناسبه؛ لعلّه يجد في آرائهم دعْماً لنظريته. ثم يتوهّم في النهاية - كما فعل الكثير مِن الفلاسفة - أنهم حققوا النصر الحاسم، وحصَّنوا نظرياتهم مِن الفشل، بينما نظرياتُهم بقيت قاصرةً؛ إنْ لم تكن بالأصل فاشلة!.

 ثم يزعُم المدافعون عن النظريةِ أو المدرسيّون أنهم عادوا مِن مغامراتهم الفكريّةِ أبطالاً يحملون المعرفة النهائيّة، مع أنّ نظرةً بسيطةً في تاريخ الفكر توضّح أنَّ كلَّ ادعاءٍ مِن هذا القبيلِ يبدو أجوفَ؛ وينتهي على الرفوف، لكنهم استمرّوا في فرض نظرياتهم إلى أنْ جاء وقتٌ اقتحمت فيه فلسفةُ العِلمِ الكثيرَ مِن مجالات الفلسفة، وظهر أنَّ الإغراقَ في النظريةِ والميتافيزيقيا؛ والخضوع للمدرسيّة في بناءِ النظرية لا يجديان نفعاً.  إنّه لأمرٌ مشروعٌ أنْ يدّعي أحدٌ أنه يسعى إلى اليقينِ؛ لكنْ ليس مِن حقه أنْ يقطعَ – من دون إثبات - بقينيّة ما توصل إليه. وفي حال تفشّي حتميةِ نظريّة ما ومطلقيتِها فمن المحتملِ أنْ يفضي الحالُ إلى مواجهةِ ما عبَّرَ عنه الفيلسوف الإسكتلندي أليستر (1929- 1977) بمصطلحِ الأزمة المعرفية؛ وهي لحظةٌ يتشكّل مِن تجاهلِها حالةٌ كارثيّةٌ تضاف إلى هشاشةِ النظرية.

والأزمة المعرفيّة تتشكّل حين يدرك المرءُ وجودَ تناقضٍ يعصف بمعتقداته، ومن ثم يتعيّن عليه العودةُ إلى نقطة البداية. لكنه يستمر ليؤسّس – من دون أنْ يدري - ما هو ضد المعرفة، بينما هو يدّعي خدمة المعرفة والتحرّي عن الحقيقة!. ولهذه الأسبابِ ولإصرار الكثيرِ من الفلاسفة على سلوك هذا التعسّفِ بحق المنهج العلمي؛ ولغلَبةِ الكشوف العلمية ذات الاعتبار الفلسفي تفشّت رؤيةٌ تقول بموت الفلسفة.

وقضيةُ موتِ الفلسفة فيها نظرٌ؛ ولا تخلو هي الأخرى من ادّعاءٍ وإعمام، سواءٌ صدرت عن الذين يأخذون بنزعةِ مناهضةِ الفلسفة، أو الذي لا يرون مِن جدوى في المعرفة؛ إلا مِن خلالِ العِلم التجريبي. والسؤال الآن: هل يمكننا الحديثُ عن نهايةِ الفلسفة أو موتها، مثلما نتحدّث عن نهاية الأيدولوجيا؟.

الواقع ليس لموت الايدولوجيا علاقةٌ بجوهرِ المعرفة؛ بل بتوجهاتِ هذه المعرفة، وخضوعها للأنساق السياسية، وفرض الإرادة على الفكر. بينما البحثُ في الحقيقة أبديٌّ، والجوعُ إلى الحِكمة طبيعةٌ بشرية، وتساؤلاتُنا عن الحق والخير والجمال والسلام والعدوان، والموت والحياة لن تتوقفَ، لكنْ أنْ تمرّ ألوفُ السنين ولا تفعل النظرية شيئاً للإجابة عن الأسئلة التي واجهتها منذ زمن سحيق؛ فأمرٌ بالفعل يستحق إعادة النظر. 

لماذا لا يعترف الفلاسفةُ بإخفاقاتِ الفلسفة؟. وإذا اعترفوا بإخفاقها فمَن أو ما الذي تسبّبَ على وجهِ التحديد في هذا الإخفاق؟. قد يقال: هذا أمرٌ مِن شأنِ نظرية المعرفة، وهنا أقول وهل نظريةُ المعرفة إلا جزءٌ مِن تاريخ المعرفة، ولا تعدوا أنْ تكون هي بدورِها مجرّدَ مسالك منطقية لضبط البحث الفلسفي. ومعنى هذا أنّ النظريةَ هي أيضا متّهمةٌ بالقصور، أو الانحراف الذي تعاني منه الفلسفة؟.

وبدلا من أنْ نتمسكَ بدعوة موتِ الفلسفة أو اندحار النظرية يجب أنْ نفكّرَ في جدوى المعرفة، ولا أعني بهذا التمسّك بعرى البرغماتية (النفعيّة)؛ فالبرغماتية تدخل في كلِّ مفاصل الحياة؛ بما في ذلك العلوم التجريبيّة، وهذه قضيةٌ أخرى فيها نظر، لكنَّ البحثَ في جدوى المعرفةِ والتحرّي عن مُخرجات أيِّ علمٍ، ومدى صلته بالإنسان وإسهامه في حلّ مشكلاته، تعني تجاوزَ الموضوعاتِ ذات النسق المدرسي والترفّع عن الخوض في مسائلَ لا طائلَ منها ولا مردودَ معرفيّا ناجزا. ومِن هنا يكون فحصُ النظرية خاضعاً لمعيار يتمحْور حول مدى خدمة النظرية للحياة، والى أيِّ حدٍّ تبتعِد عن القسْر في فروضِها، وتترك للحرية هامشَ الاختيار والحكم.   لكن هل يُدرك الفلاسفةُ عموماً قصورهم، أو بالأحرى إخفاقاتهم في مهماتهم البطولية للإمساك ببنيةٍ ذات مغزى للحياة؟، إنهم بالعموم لا يدركون ذلك، وهم في الغالبِ إذا أدركوه فلن يسلّموا به. لماذا ؟ لأنهم هم الذين يكتبون تاريخَ الفلسفةِ، وهذا التاريخ يبدو دوماً كتاريخ لإنجازاتها هم. 

كان الفيلسوف البريطاني جون لوك  John Lockيعتقد أنّ دورَ الفلسفة الأساسي إزالةُ بعضِ القمامة التي قد تعيق المرءَ عن اكتساب المعرفة، لكن ماذا لو كانت الفلسفةُ ذاتها تنثر أحياناً بعضاً من قماتها على طريق المعرفة؟ باسم المنهج وباسم النظرية أو بالإصرار على معالجة قضايا ليست بذات جدوى؛ لا سيما على المستوى الميتافيزيقي!. 

لكنْ لنجعلَ الحججَ التي يحتجُّ بها دعاةُ موتِ الفلسفة أو الفلسفة المضادة معياراً عاماً؛ فهل سيقبلون بالنتيجة التي تقول: ليست الفلسفةُ وحدها بل كلِّ نشاط فكري آخر معني بالانغماس في الحياة والوصول إلى مخرجات ايجابية تخدم الحياة؛ سواء في الأديان أو السياسة أو حتى في مجال الأدب والفن وعلوم الاجتماع والتاريخ. فهل جميع هذه النشاطات لم تخفقْ وتنغمِس فيما هو مجافٍ للجدوى، ألم ينطوِ كثير منها على عِماية ومضيعةٍ للوقت والجهد!، ناهيك عن ممارستها سلطويتها؟. إذن ليست الفلسفة وحدها معنية بالمراجعات. 

إنّ انخذالَ الوعي حالةٌ عامةٌ تتعلّق بمستوى الإدراك، وبسلامة قصديته، ولا تخصّ التفكيرَ الفلسفي وحده، لذا نحن بحاجةٍ إلى محاكمةِ كلِّ نشاطاتنا وبالمعيار نفسِه الذي نريد أنْ نحاكِم به الفلسفة. وأيّ فشلٍ هو ناتجُ قصورِ الفهمِ البشري عامة؛ قُبالةَ ألوف مِن السنين مرّت؛ ولم يرتق فيها الوعي الأخلاقي ارتقاءً نوعياً. 

وفي حال استثنينا المكاسبَ الماديةِ التي حققها الإنسانُ في القرنين الأخيرين؛ سنجده في كثيرٍ من مفاصلِه غارقاً حتى أُذنيه في القصورِ الأخلاقي والإنساني؛ بل هو أقربُ أحياناً إلى البربريَّة منه إلى الارتقاء، وتفصح الحروبُ والمنازعات والفقر والاستغلال والتهديدات بفناء الجنس البشري، عن واقع مروّع، فلِمَ نجعلُ محاكماتنا انتقائية وجزيئة!. هذا تساؤل ينمّ عن فجيعةٍ أخلاقية لا نكف عن طمْسها؛ لنرميَ بعد ذلك نحن البشرَ أسمالَنا على جوانبَ معينة، ونغضُّ الطرْفَ عن محاكمة تواريخِنا بالجملة.