في حبّ توقيع (البغدادي)

ثقافة 2023/03/08
...

مرتضى الجصاني


لا يخفى على أهل الخطّ والمحبين لهذا الفنِّ الأصيل أنَّ توقيعات الخطاطين هي قطعة فنيَّة مكملة للوحة الأصلية وحتى لا ندخل في سرد تاريخي لتاريخ التوقيع في اللوحة الخطيَّة، نقول إنَّ الخطاطين العثمانيين أبدعوا غاية الإبداع في رسم شكل التوقيع ونحته ومنه نشأت تأويلات ورمزيات في وصف أشكال التوقيع..

 إذ ذهب بعضهم إلى أنها- أي التوقيعات- تُكتب على شكل بصمة إبهام الخطاط وذهب بعضهم الآخر إلى أنَّ التوقيع هو جزء من شخصية الخطاط نفسه وروحانيته، بينما يذهب قسم من أهل الخط إلى أنَّ التوقيع هو شكل فني مجرد قائم على الشكل الفني وتناسب الكتلة والتوازن بين السواد والبياض أي بين الكتلة والفراغ وبكل الأحوال لا أجد اختلافاً كبيراً بين هذه الآراء لأنها بالنتيجة وصف فني يحتمل التأويل والتجريد وهذا من مزايا تطور الخط على يد الخطاطين العثمانيين الكبار فقد نقلوا الخط العربي من الجملة والسطر إلى الشكل الفني المعقد المتداخل الذي يوجب على المتلقي أن يسرح في تأملات واحتمالات كثيرة كي يصل إلى النص المراد، والتوقيع شأنه شأن اللوحة الخطية تطور في الشكل والتصميم حتى وصل إلى أشكال متطورة ومتكاملة جمالياً وفنياً، ومن هذا التراث الفني العريق والأصيل والممتد إلى مئات السنين يظهر لنا في النصف الثاني من القرن العشرين خطاط بارع هو امتداد لمدرسة بغداد الخطية العريقة وتراث لكبار الخطاطين العثمانيين، إنه عباس البغدادي أو (عباس بغدادي) كما يحلو له أن يسمي نفسه. والبغدادي لا يمكن الحديث عن جمالياته المتعددة في هذه السطور القليلة لأنه مصدر جمالي رصين وكبير ولكن يمكن أن نرتشف من عذب جماله الثرّ ونتكلم عن لمحة بسيطة من إبداعاته اللامتناهية، توقيع البغدادي، هذا التوقيع الذي يعدُّ تحفة فنية متكاملة يحمل قيم الجمال التي نبحث عنها ويحمل المعنى والمضمون والشكل والتوازن والكتلة والفراغ، وهنا نسأل أي مستوى فني وصل إليه هذا الرجل كي ينتج هذه التحفة أقصد- التوقيع- حتى صار توقيعه مدرسة يسير على خطاه الخطاطون ويقتفي أثره المبدعون وكتابة توقيعاتهم وإنتاج أشكال جديدة بالروح نفسها ألا وهي روح البغدادي المبدع، وإذا تكلمنا عن جماليات توقيع البغدادي من ناحية فنية خالصة نلاحظ أنه اختار كلمة (بغدادي) ولم يختر اسمه وهذه التفاتة ذكية ورائعة في توثيق اسم بغداد ومدرستها الخطية وانتسابه إليها، من ناحية أخرى نلاحظ كتلة الاسم واستلهامه أشكال التوقيعات العثمانية القديمة مع وضع لمساته الخاصة المميزة في تكوين شكل التوقيع وتفاصيله حيث اتصال الدال مع الياء في واحدة من تجليات البغدادي الرائعة كذلك التفاف الجناح من الياء إلى اتصاله بالألف ومن ثم يذيلها بصورة مدهشة بانحناء مدروس بشكل هندسي دقيق ومثير، توقيع البغدادي هو بصمته الباقية وهو أثر الأقدمين بحق وهو مبتكر لهذا الشكل الفني المختلف عن الجميع والمستلهم للإرث الفني كله.