الأبيقوريّة وفلسفة الموت

ثقافة 2023/03/08
...

ترجمة: رامية منصور


تبنى أبيقور نسخة من مذهب المتعة التي بموجبها تكون المتعة أو التجارب الممتعة هي الشيء الوحيد الجيد في جوهره بالنسبة لنا بينما الألم أو التجارب المؤلمة هي عكس ذلك.  ويطلق على هذا الرأي مذهب (المتعة الجوهرية. ( دفع التزام أبيقور بمبدأ المتعة الجوهرية إلى القول إن “كل الخير والشر يكمن في الإحساس.” كما ادعى أنه “عندما نكون ، لا يوجد الموت ، وعندما يكون الموت موجوداً، فإننا لا نكون كذلك “ . لا يتداخل موت الإنسان ووجوده داخل مساحة زمنية واحدة.. وفق هذا الافتراض حول الموت والوجود، خلص إلى أن موت الشخص لا يسبِّب له أي تجارب حسّية  “يجب حرمان الموت من الإحساس “.

 في المقطع التالي ، يستخدم هذه الأفكار ضد أطروحة الضرر:

“عليك أن تؤمن بأن الموت لا يشكِّل شيئاً بالنسبة لنا، لأنَّ كل الخير والشر يكمن في الإحساس، والموت يجب نفي الإحساس عن الموت.. لذا فإنَّ أكثر ما يخيفنا من بين كل الأشياء السيئة هو الموت, في حين أنَّ الموت بحد ذاته لا يشكِّل شيئاً لنا، لأنه عندما نكون، لا يوجد الموت، وعندما يكون الموت موجوداً ، فإننا لا نكون كذلك. “

كثير من التفاصيل التي تمُسُّ حُجَّة أبيقور غير واضحة، لذا دعونا نعمل من خلالها بعناية أكبر ونرى ما إذا كان بإمكاننا ملء بعض الفراغات التي تركها.  ستكون بعض التكهُّنات ضرورية، لكن يمكننا تطوير وإعادة بنائها لتتماشى مع الأشياء التي كتبها. وفق مذهب المتعة الجوهرية من الصحيح أنَّ شيئاً ما يكون جيداً أو سيّئاً في جوهره بالنسبة لشخص ما فقط في حال كان هذا الشيء يُعَدُّ تجربة. لكن وبغض النظر عما إذا كان الشخص قد اختبر موته ، فإنَّ هذا الموت ليس في حدِّ ذاته تجربة. . ولنقارن هنا: قد أجرِّب الركض في الشارع ، وقد اختبر الكأس الموجودة أمامي، لكن لا الركض ولا الكأس هي تجربة بحدِّ ذاتها. تجربتي إنْ جاز التعبير في ذهني, بينما الكؤوس ليست كذلك..

موت الإنسان ليس تجربة. وإذا لم تكن وفاة شخص ما تجربة على الإطلاق، فمن الواضح أنها ليست تجربة جيدة أو سيئة في جوهرها. لذلك فإن موت الشخص ليس جيداً أو سيئاً في جوهره بالنسبة له. ورغم ذلك ، فإنَّ شيئاً ليس سيئاً في جوهره بالنسبة لشخص ما قد يؤدي مع ذلك إلى حدوث أشياء أخرى ضارَّة به، وفي هذه الحالة قد يكون ضاراً به من الخارج.

رؤية شخص ما يسقط وتُكسر ذراعه ليس بالأمر السيئ بالنسبة للإنسان، ولكن الحزن لرؤية شخص يتألم سوف يسبِّب الألم للمشاهد، مما يجعل الحادث الذي رأيته سيئاً بالنسبة لك. وبالمثل ، فإنَّ الشيء غير الجيد في جوهره بالنسبة للشخص قد يكون جيداً بالنسبة له من الخارج.

اعترف أبيقور بإمكانية الخير الخارجي. ليس من الواضح تماماً كيف فَهِمَهُ ، ولكن يبدو أنه يقبل وجهة نظر يمكننا تسميتها بالذرائعية الخارجية : يكون شيء ما جيداً أو سيئاً من الخارج بالنسبة لشخص ما فقط إذا كان ينطوي على أشياء (بخلاف نفسه) جيدة أو سيئة في جوهرها له.. والذرائعية الخارجية صحيحة لكن يمكن لأبيقور أن يرفض احتمال أن تكون وفاة الشخص أمراً سيئاً بالنسبة له من الخارج، بحجة ما يلي. لأن أبيقور كان يعتقد أنَّ موت الشخص ووجود هذا الشخص لا يتداخلان مع الزمن ، وهذا ما دفعه للاعتقاد بذلك..  “ لا تجعل من وفاة ذلك الإنسان تجربة خاصة به” .. “ موت الشخص ليس جيداً أو سيئاً بالنسبة له من الخارج “ ولإكمال الحُجّة ضد أطروحة الضرر، سيحتاج أبيقور إلى افتراض إضافي ، مثل هذا: “ الشيء الجيد أو السيء لشخص ما فقط إذا كان جيداً أو سيئاً في جوهره أو من الخارج “.

لكن هل أنَّ “موت الإنسان ليس جيداً أو سيئاً بالنسبة له “ هو حُجَّة مقنعة لكونه غير موجود ولا يتأثر بالتالي بأي أمر يصيبه؟ دعونا نرى ما إذا كان بإمكاننا إيجاد نقاط ضعف. بداية سوف نتحفَّظ على مصطلح “الموت” .

يمكننا استخدام مصطلح “الموت” للتعبير عن صورة الموت، أو حدث أو عملية فقدان الحياة .. التحفُّظ الأول حول هذه الحُجَّة هو أنها أقوى إذا كانت استخداماتها لـ “الموت” تشير إلى الموت، وليس (حدث أو عملية) الموت. إليكم السبب.. الموت ليس تجربة، ولا يجعل الشخص يمتلك أي تجارب.. لذلك (وفقاً لافتراضات أبيقور) ليس من السيئ جوهرياً ولا خارجياً أن يموت الشخص. ومع ذلك ، قد يعاني الشخص من الموت، وقد تكون تجربة الموت سيئة في جوهرها بالنسبة له إذا كان هناك من شيء يجعل الشخص يمرُّ بتجارب مؤلمة ، أليس هذا سيئاً بحدِّ ذاته بالنسبة له؟! على الأقل نستطيع القول إن الحُجَّة الأبيقورية لا تُظهر أنَّ الموت المؤلم ليس سيئاً في جوهره بالنسبة للإنسان. وهنا نرى أنَّ الحُجَّة لا تُثبت أنَّ الموت ليس سيئاً على الإطلاق لأولئك الذين يموتون. إذًا، ما لم نجد المزيد من نقاط الضعف، الموت ليس جيدًا ولا سيئاً لمن يموت إلا بقدر ما يسبِّب له من الألم.. فيكون الموت هو كليّاً مسألة لامبالاة بالنسبة لأولئك الذين لا يعانون منه ، لنقل لأنهم ينامون خلاله. 

ثم لنتأمل في ماهية الأشياء الجيدة أو السيئة في جوهرها بالنسبة لنا.. إنها مسائل مثيرة للجدل ، لكن العديد من المنظِّرين يُنكرون أنَّ القائمة تقتصر على (المتعة والألم) .. على سبيل المثال ، قد نتبنَّى فكرة التفضيلية ، أو فكرة تحقيق الرغبة ، وهو الرأي القائل بأنه من الجيد جوهرياً لنا أن نلبِّي إحدى رغباتنا (بافتراض أنَّ الرغبة تستوفي شروطاً مختلفة وفيها نقاش) ، ومن السيئ في جوهرنا أن تكون لدينا رغبة يتم إحباطها. الآن ، قد تتحقق العديد من رغباتي ، وقد يتم إحباط العديد منها ، من دون أن ألاحظ .. لا يحتاج تحقيق الرغبة إلى نتيجة تجريبية. إذا كنتُ أريد أن يكون طفلي سعيداً ، فإنَّ رغبتي تتحقق ، حتى لو سافرت بعيداً عنه لدرجة أنني لا أستطيع التفاعل معه الآن أو مرة أخرى.. وهنا التفضيلية لا تنجح! 

 لا يمكن للأبيقوريين استخدام الذرائعية الخارجية لإنكار أنَّ وفاة الشخص جيدة أو سيئة بالنسبة له من الخارج إذا كانت الأشياء التي هي في جوهرها جيدة أو سيئة بالنسبة له لا تقتصر على التجارب.  تعني التفضيلية أنَّ الأشياء قد تكون سيئة بالنسبة لنا من الخارج بحكم إحباط رغباتنا، بغض النظر عما إذا كان لهذا أي نتيجة تجريبية. لنفترض، على سبيل المثال، أنني أرغب في أن تكون لطفلي تَنْشِئة سعيدة ، ولأسباب مختلفة ، اتضح أنني الشخص الوحيد القادر على تحقيق ذلك ، لكنني أموت فجأة ، ونتيجة لذلك تصبح طفولته بائسة.. يمكن القول إن موتي المفاجئ سيكون سيئاً بالنسبة لي ، لأنه سيحبط رغبتي ، حتى لو مُتُّ أثناء نومي ، ولم أكن أبداً على دِراية بمصيري.

لنضع في الحسبان بعض الشكوك بشأن الذرائعية الخارجية ، والتي تقول إن شيئاً ما يكون جيداً أو سيئاً من الخارج بالنسبة لنا فقط إذا كان يتسبّب في أنْ تحصل لنا أشياء جيدة أو سيئة في جوهرها. تتغاضى هذه النظرة عن شيء أشار إليه توماس ناجل (1970) في مقالته الأساسية “الموت”، وهي حقيقة أنَّ الأشياء قد تكون جيدة أو سيئة لنا من الخارج ، وأنَّ الأشياء الأخرى متساوية ، بحكم أنها تمنحنا - بحكم استبعادنا لتأثيرها - أشياء جيدة أو سيئة في جوهرها بالنسبة لنا. ضع في اعتبارك أنَّ كونك فاقداً للوعي قبل الجراحة أمر جيد خارجياً للمريض الذي قد يتحمَّل معاناة شديدة عندما يستخدم الأطباء المشارط في جسده، لأنه يمنعه من الإحساس بالمعاناة ، وليس لأنه يتسبب في حصوله على المتعة أو بعض الفوائد الأخرى. بالطبع ، بعد الاستيقاظ ، قد يحصل المريض أيضاً على مُتعة أو بعض الفوائد الأخرى كنتيجة غير مباشرة للتخدير، ولكن في ضوء المعاناة التي يتجنبها، فإنَّ التخدير مفيد جداً بالنسبة له سواء حصل على ذلك المكسب غير المباشر أم لا . كذلك ، قد يكون فقدان الوعي أمراً سيئاً من الخارج بالنسبة للشخص ، على سبيل المثال عندما يسبق ذلك، بعض المناسبات السعيدة التي سيُفوِّتُها لأنه غير واعٍ أثناء حدوثها. وهو مُضرٌّ به من الخارج في هذه الحالة لأنه يمنعه من الفرح في مناسبة تفوته. يظل هذا صحيحاً سواء كان يعاني أيضاً من بعض الألم أو غيره من الضرر الجوهري كنتيجة غير مباشرة للتخدير أم لا.

إن استطعنا القول إن الأشياء قد تكون جيدة أو سيئة من الخارج بالنسبة لنا في حين  هناك أشياء أخرى متساوية ، بحكم استبعاد وجود شرور، فسنُريد السماح لهذه الحقيقة بالاستقرار على فهم مناسب لما يجعل الأشياء جيدة أو سيئة بالنسبة لنا.