مزاحم الناصري.. شغف الواقعيَّة الذي لا يُبلى

ثقافة 2023/03/08
...

 محمد طهمازي


ثَمَّ يقين في المبدأ القائل بأنَّ الإفراط في اتجاه ما سيؤدي لاحقًا ومن دون شك إلى التفريط بكل ذلك الاتجاه، وهذا بالضبط ما حصل للفن الكلاسيكي الذي أوغل في كلاسيكيته حتى كفر بها أغلب الفنانين وراحوا بالاتجاه المعاكس تمامًا، بدأ بالطبيعيَّة الواقعيَّة الانطباعيَّة دخولاً بمدارس الفن الحديث وما بعده وبعدها حتى وصلنا مرة ثانية لحالة هي قمّة الإفراط ليبدأ تمرّد وانقلاب جديد على روح تلك المرحلة ألا وهي التبسيط على حساب التقنيَّة الاحترافيَّة للأداء الفني للرسام أو النحات، فكانت الواقعيَّة المفرطة التي عادت بكلاسيكيَّة ليست من الكلاسيكيَّة في شيء وبنسف كامل للموضوع لكن ليس بقالب الحداثة ذاك.. إنّها وليد شرعي لكنّه ناقمٌ على كل أجداده برغم كونه يحمل كل جيناتهم التقنيّة ورؤاهم المعقّدة والمبسّطة ومنظومة البحث اللوني وخزين من الخبرة في تعبير من نوع خاص يكاد يخلو من أيّش تعبيرٍ في نسبة ليست بالقليلة من أعمال الواقعيَّة المفرطة.

مزاحم الناصري من أوائل من خاضوا عالم الواقعيَّة المفرطة، ليس في العراق بل في الشرق الأوسط، بشغف هو في حقيقته إخلاص لمدرسة الرسم التي تشرّبها على يد الأستاذ الكبير فائق حسن، واستخلص من خلال تجاربه الشخصيّة المعمار التركيبي للألوان التي يتعاطى معها وينطلق برشاقة من عوائلها في تنفيذ أعماله الفنية وليس التجاريّة فأنا أتكلّم هنا عن المنتج الفني الإبداعي للفنان أي فنان كان وليس عن أعماله التجاريّة التي يتأثر بها عامة الناس والغالبية الساحقة من النقاد!

إنَّ أعمق الفنانين جذورًا في عالم الواقعيّة المفرطة هم الفنانون الذين نمت موهبتهم في منطقة الرسم الواقعي المرتكز على القواعد الأكاديميّة الصارمة مثلهم مثل فناني الحداثة الحقيقيين وهذا حال الفنان مزاحم.. والواقعيّة هنا ليست مثلبة كما يرى السطحيّون المهووسون بفكرة الحداثة من دون فهم حقيقة لا يمكن نسيانها تحت أيِّ ظرف وهي أنَّ عالم الرسم هو في الدرجة الأولى إدمان على البحث في اللون والخط وطرق التعبير ليس عن الأفكار فقط بل عن الرغبة الملحّة في الرسم كما الطير المغرّد الذي لا يملك إلا أن يغرّد.. إنَّ عجينة اللون هي الطين الذي ينبت منه الرسام ويقف على أقدام إبداعه والفرشاة هي مجسّه الذي يعيد الإحساس الداخلي إلى سطح القماشة بلمسات هي أهم عنده من نبضات قلبه..

التقنية العالية في الرسم الواقعي أو كما اشتهرت تسميتها بالواقعيّة المفرطة هي تميّز وميزة وحضور لموهبة عالية ودرس فنّي لمن يودُّ أن يتعلّم ومحفّز كبير لمن لديه ما يقدّمه من تجارب خاصة.. رغم أنَّ هنالك الكثيرين ممن وقفوا ويقفون في موقف المعادي والمشوّه لهذا الخط ولفنانيه متعلّلاً بحجج الحداثة وما بعدها والتحوّلات الثقافيّة والفكريّة التي قادت المدارس الفنيّة لقرن أو يزيد وينسى أنَّ الواقعيَّة المفرطة هي تمرّد وتحوّل لكنّها مدرسة لا يقدر على الخوض فيها من يفتقد هوية الرسم والأداء التقني العالي بدل استسهال المنتج الفني كما جرت العادة عبر عقود طويلة.. ومزاحم الناصري يؤكّد بأعماله مثله مثل النسبة الأكبر من جيل الواقعيّة المفرطة بأنَّ هذه المدرسة ليستْ ردّة فعل آنيَّة بل هي بداية وانتقالة لعهد جديد يعيد الحيويّة والغنى للرسم بروحيَّة جديدة تعتز وتطور تقنياتها واحترافيتها العالية باستمرار، متجاهلة فقراء الرسم الذين انكشف عقم حملاتهم البعيدة عن الفن والمرونة في الفهم والعلميَّة في 

التقييم..

حين تتأمّل أعمال مزاحم الفنيَّة ستلمس مدى حبِّه للرسم وانصهاره الروحي في هذا العالم الذي وطّن مصيره فيه ولم يتخلَّ عنه في كل الظروف.. تتوزّع مواضيعه بين الوجوه التي يدمج معها مواد أخرى يعدها ثيمات مثل الزهور ذات السيقان الطويلة التي تخترق الأجساد أو تعلّق مثل فكرة مقلوبة أو مصلوبة ورسائل وصور شخصيَّة صغيرة وصور بريديَّة، بقايا غربة أو بقايا وطن، والقصاصات الورقيَّة بخربشات طفولة يفتقدها، فضلا عن رسم الشخصيات المعروفة كالفنان بوب مارلي مؤسس مدرسة موسيقى "الريجيه" والنجم السينمائي والشخصية الفكريّة مورغان فريمان وهي شخصيات يحتمل رسمها الكثير من التفاصيل التي تحتاج لإمكانية عالية في الرسم يستعرض فيها الفنان مهاراته إلى جانب القيمة المعنويَّة للشخص المرسوم والإيحاءات التي تسرح بذهن المتأمّل لها.

إنَّ أبرز عناصر الإبداع الفني موجودة بقوّة في أعمال الواقعيَّة المفرطة، ومنها أعمال الفنان مزاحم الناصري، ألا وهو عنصر الدهشة وهو يمثّل مرحلة عالية من درجات الاستغراق في التأمّل الذهني والفكري، نابعة من عمق الكيان الإنساني وإحساسه بوجوده الذي يتأرجح قلقًا بين المجهول والمحدود.. يقول رينيه ديكارت: "إنَّ الدهشة هي الشعور الإنساني الأول بين الأحاسيس الغامضة، إحساس الحيرة العقليَّة القصيرة لكن المكثفة أمام شيءٍ ليس بالهائل بل البسيط غير المتوقّع والذي يثير الفضول ورغبة الاكتشاف..".

لا بدَّ لي من قول أراه واجبًا يمليه الضمير وهو أنّنا كنّا سنرى من أعمال مزاحم الناصري الفنيّة وأمثاله من الفنانين الشغوفين في الرسم الواقعي ما هو أعظم وأكثر عددًا وأكبر دهشة وأقوى تقنية لو كان لدينا نقاد حقيقيون يقومون بالدور الفعّال والعلمي للنقد الفني ولو توفّر لدينا سوق أعمال فنيّة حقيقيَّة ولو كانت لدينا بيئة فنيّة وأوساط تقيّم الفن وتتذوقه وتراه بعين الكنز لا بعين السلعة وترى الفنان كقيمة معنويَّة نادرة وغنيَّة وليس مهرجًا أو محط استغلال 

وإذلال!.