{المئذنة البيضاء}.. رواية الأزمة السورية

ثقافة 2023/03/08
...

  حربي محسن عبدالله


المئذنة البيضاء هي الرواية الأولى للكاتب السوري والصحفي المخضرم يعرب العيسى، بعد عمر طويل قضاه في الكتابة الصحفية والتحقيقات وأرشفة الأحداث. يعرب العيسى حكاء من الطراز الرفيع ينتقل من موضوع إلى آخر برشاقة من له في كل عرس قرص كما يقول المثل المشهور. يكتب يعرب العيسى قصة {مايك الشرقي}، بنفس استقصائي تحقيقي، يجمع بين الكتابة الصحفية وسرد الحكاء المتمرّس.


في الخمسين يمتلك كلّ رجل الوجه الذي يستحق كما يقول الكاتب، نقلاً عن جورج أورويل، لكن بطل الرواية "مايك الشرقي" أو "غريب الحصو" يشذُّ عن ذلك، فهو الطالب الجامعي السوري الذي يغادر دمشق الشام إلى بيروت باحثاً عن عمل أي عمل يعينه على تكملة دراسته.

وحين غادر دمشق في الساعة الخامسة من صباح الأحد 26/ آب/ 1984.

كان مجرد غريب الحصو. الشاب السوري الذي وصل إلى نهاية عامه الجامعي بالقروش القليلة، التي احتفظ بها من أعمال متفرقة في رفع مواد البناء وصبّ البيتون ونقل الأثاث إلى الطوابق العليا. أمضى عاماً شاقاً، أو أشقّ ما فيه، محاولة إخفاء الجميع عن الجميع.  

تأخذه الأقدار ليلتقي برجل عجيب "كان يشبه قديساً أو فيلسوفاً، أكثر منه ما يشبه سمساراً. أو هكذا أوحت ملامحُ  الرضا والسكينة في وجهه"، كان هذا هو ما يدعى بالشيخ قسام، فهو مزيج من أحلام اليقظة، ومدائح الطغاة، والمقاطع الدعائية.

يتعرّف غريب الحصو على الشيخ (الرجل الغامض)، ويتم اتفاق العمل بهزة من رأس غريب الحصو كان هذا الاتفاق لما قبل قرن أو قرنين يسمى صكّ عبودية. سيقوم بكل المهام التي يكلفها بها الشيخ والتي لا يعرفها، أما مواعيد عمله فستكون في أي وقت من الأربع وعشرين ساعة. 

ومقابل ذلك سينام ويأكل، وسيعطيه الشيخ مكافآت بقدر ما يعجبه أداؤه. وشيئاً فشيئاً أخذ دوره يكبر وحظّه من مكارم الشيخ ولفتاته السخية كذلك. حتى وصل إلى مرحلة مهمّة جداً بعد أن تعرّف على كل أسرار الشيخ القسام وعلاقاته المالية والسياسية، ووصوله إلى أسرار وفضائح أصحاب القرارات الاقتصادية الكبرى، ومتعهم وعلاقاتهم السياسية المشبوهة المتداخلة محلياً وعالمياً. 

مايك الشرقي الذي دخل إلى عالم الأعمال كلها بما فيها القذرة، وأصبح مساعدا موهوباً وأخلص لموهبته، وأحلّ الغرائز محل الأفكار الكبرى التي كان يخطط لدراستها. 

صار طالب ابتذال بدل أن يكون طالب فلسفة، بحث عن كل الكتب التي استشهد بها كولن ويلسون.

 ثم الكتب التي استشهدت بها كل تلك الكتب، اختبر المنافسين، درسهم كمقرر جامعي. قام بزيارات خاطفة إلى بيوت الليل الأخرى. 

بعد ذلك حدثتِ القفزة الكبرى بوفاة الشيخ القسام، وعندما تحوّل غريب الحصو إلى "مايك الشرقي"، والتقى بمن يشتري منه ما تركه الشيخ أي الفندق القديم المتهالك، ليفتتح مايك الشرقي مشروع فندق كبير بمواصفات عالمية تسع كل ما يخطر في بال رجال الأعمال والسياسيين وطلاب المتع والرفاهية الملوكية. 

وهذا ما اشتراه من الرجل القادم من الغموض في تلك الصفقة، والتي كانت أكبر بكثيرٍ من مشروع سياحي ناجح.

لقد اشترى القدرة على ممارسة متعه كلها. واشترى السلطة، التي تسمح له بإصدار الأوامر لعدد أكبر وشرائح أوسع من أولئك الذين شكّلوا عالمه السابق من بائعات صغيرات وسائقين عموميين ومؤجري شقق مفروشة.

 وبعد سنوات طويلة من تغيير مسار حياة غريب الحصو تتداخل الأحداث مع بداية الأزمة السورية.

ينقلنا الكاتب إلى ما جرى بين الخبراء الذين حضروا إلى مؤتمر تجري أعماله في فندق "مايك الشرقي" حول الأزمة السورية فيقول: "شجار الخبراء بقيَّ مهذّباً، اختلفوا على بعض المفردات والمفاهيم، لكنّهم لم يتجاوزوا حدود اللياقة بسبب الجو الأنيق الذي فرض ايقاعه عليهم، اختلفوا قليلاً على استخدام كلمات "ثورة"، "أزمة"، "حراك"، "مؤامرة"، حرب.." وأكثر قليلاً على كلمات "نظام، دولة، سوريا".

أعلى كل منهم من شأن أحد الأسباب التي يرون أنها أحد الأسباب التي يرون أنها أدت إلى النزاع، تأرجحت نظرياتهم بين جمر الطائفية المختبئ تحت الرماد، والمؤشرات الاقتصادية، ومرّوا بنوعية التعليم، الخدمات الصحية، أجهزة المخابرات، تهميش الأطراف. توريث الحكم الجمهوري، العلاقات الاقتصادية مع تركيا، مسلسلات البيئة الشامية، ارتفاع معدلات البطالة". ثمّ يأتي دور شركة الصين المتجهة غرباً للاستثمارات الدولية المساهمة المغفلة، ودورها في تخطيط مشروع الشرق الجديد، الذي سيحدّد مصيرنا لعقود أو ربما لقرون.

ينتقل الكاتب بأحداث الرواية وببطله من الحرب الأهلية اللبنانية إلى حرب الكويت، ثم النهوض الاقتصادي في دبي إلى سقوط بغداد تحت الاحتلال، ثم العودة إلى سوريا عشية أحداث الربيع العربي، ويرافق ذلك رحلة أسطول المال العابر للقارات والبحار، والذي لا يعرف حدوداً للانتماء أو حدوداً للمكان أو الزمان، إذ يمتد نفوذ الشرقي من بيروت إلى بلغاريا والصين وتركيا وقبرص واسكتلندا،  كما أنه يشرف على ناقلات النفط الإيرانية ويدير سلسلة من البواخر، التي تحوي عالمها الخاص للعربدة واستقطاب أسماء لها شهرتها العالمية، كل هذا لأجل العودة إلى دمشق والانتقام منها، المدينة التي نبذته وطردته حافياً، ثم عاد إليها ملكاً لقافلة الاستثمار ولاعباً مهماً في تجارة الحرب، ليكمل الحكاية التي عاشت معه على مدار الأعوام، في محاولة لتشكيلها (المدينة/ الحكاية) من جديد على هامش الحرب السورية. 

رواية "المئذنة البيضاء" رُشحتْ إلى جائزة البوكر العربية. وصدرت عن دار المتوسط.