أخيَّة الشَّرق.. أو استعاراتُ بورخيس السِّت

ثقافة 2023/03/09
...

  طالب عبد العزيز 

في فهم مفارق للكتابة وللشعر على وجه التحديد، يحدد بورخيس الاستعاراتِ بست لا غير، هي: النهرُ والزمن، الحياة والأحلام، الموت والنوم، النجومُ والعيون، والزهورُ والنساء، تتلخص مهمة الشاعر فيها باكتشاف الاستعارات الست هذه. نحن لا نعلمُ على أيِّ معادلة رسم بورخيس الثنائيَّة العجيبة هذه، التي لم يذهب الى إفرادها، إنما قرنها بأخرى، أو توأمها لتبلغ المراد، الذي يسعى الشعر إليه. واضح أنه ترك معجمَ التأويل مفتوحاً لنا، وفرصة لتضاعيف لا حدود لها، فلا تثريب علينا إذا ما قلنا بأن النهر والزمن مادتا الحركة والأبدية.

والحياة والأحلام مادتا الاستمرار والأخيلة، والموت والنوم مادتا الانتظار والرجوع، والنجوم والعيون مادتا القرب والبعد، والزهور والنساء مادتا الحبّ والذبول.. في مقاربة أو مفارقة لا بدَّ منها، غير متضايقين من مساحة الصواب والخطأ معه، حتى لنقول: وهل يخلد من الشعر والكلام إلا المفارق، والمحمول على الاستعارة، ولعلنا نجدُ ضالتنا في الاستعارة العظيمة بقوله تعالى: «والصبحِ إذا

تنفّس».    

  أجدني مع كثير من الذين ذهبوا الى تخليص الشعر من المباشرة، والارتقاء به خارج حدود النثر المطلق، مثلما أجدني مع الذين نأوا بأنفسهم عن تحميل اللغة فوق طاقتها الاستعاريّة، والتقعير فيها، مع يقيني بأنَّ الشعرَ إنَّما يقع بين حدِّي الفهمين هذين، وأنَّ قلةً من الشعراء هم من أدركوا هذه، واحسنوا التعامل معها، في صوغ

قصائدهم. 

في كلِّ ممارسة وقراءة للشعر تكمن مساحةٌ من الضوء، نستطيع خلالها عقد مجموعة القرائن، التي تعيننا على (فهْم) الشعر، والشاعر المقتدر هو الذي يأخذ بيد قارئه للاستعارات المستقاة من القرائن تلك. «منذ زمنٍ بعيدٍ وأنا أحاول أنْ ألمسَ في الليلِ الطيّات الخفيفة، التي يُحدثها الماءُ في الصمت/ أنْ ألمسَ في الجسدِ الذي لا يطيقُ البرد/ الجسدِ المدعوك/ ذلك الشيء الذي يُضيء صوري، وأحيانا يأتي من يُمزِّقها» أفكر بأصابع الشاعر (لوران غاسبار) وهي تتحسس في الليل الطيّاتِ الخفيفة، التي يُحدثها الماءُ في الصمت، ثم انشغل بفكرة الجسد الذي لا يطيقُ البرد، وهو يتحدث عن الجسد الآخر (المدعوك، الشيء) وهو يضيء صورَه، أو باستحالة قدرته على رسم صورة الذي يأتي

ويمزِّقها.

   لا السورُ بمباهجه الألف/ ولا أباريقُ العطر المكسورة في فؤاده/ ولا الضوءُ قبل نفاذه في الرؤيا.. كانت ستسلبني رعشةَ الجسد الذي كان لي، تفاقمه في الذِّهاب والإيّاب يزيدني غروباً.. هذه أزرارُ عظمته تسَّاقط، مثل مخالب نمرٍ بطيء العدو في روحي. لكنْ، لا عليك، أكملْ خطاك، خذها الى الموحش والغريب، وإن اِمّحت الطريق، وتراجعت الظلال، ولتستقم قدمُك الأولى، الوصولُ الآمنُ يجعلها راعشةً/ النداءَ الخفيُّ ما تسمع، فلا تُسلْحِفْ خطاك على القناطر/ هذا الليل سيأخذك الى مهاويه، التي أنتَ قاصدها، الى القصب الذي استودعَ أنينَه أعناقَ الفواخت/ ساعةَ ليس في الشبابيك ما تضنُّ به على الانتظار/ أنت لن ترث الأفق، ولن تصحبك الأخيلةُ بعرباتها.. فقد تناهبت الريحُ يافطةَ الأمل/ وكما تضيق كتبُ الجمالِ بقلبٍ يجثو على ركبتيه، تضيقُ بجسدِكَ خسوفُ الأرض/ كثيراً ما تضيقُ صفحةُ الماء بالقمر اليابس العنيد. كانت فروغ فرحزاد التي ماتت وظل الليل بعدها طويلاً تقول: «لم استطعْ بعد الموت أنْ أحدِّق بالمرآة». 

 في الحانة، حيث يقعي أصيصُ النرجس بضبابِ زجاجها، واجماً من ليلتين، توقفتُ، وعند سلّمها الناتئ من ضلعٍ في المبنى أردتُ أنْ أفيَ حقَّ النَّهار/ هناك، بحثتُ عن المرأة التي لم تشأ لشعرها أنْ يكونَ غابةً البارحة / لكنَّ الباب ظلَّ موارَباً، لا تفتحه يدُ الشكوى ولا تغلقه شفةُ الامنيات.. كان عليَّ ألّا أكتب في هذه/ وأنْ أتركَ الطاولةَ، بأزرقها يموجُ وينثني، ثم يموجُ ولا ينثني/ لكنني، وكمنْ أيقظتهُ ثالثة أحزانه، ناديتُ قطعة القاشان، صحّتُ بها: يا أخيَّة الشرق/ ماذا ينبغي أنْ نلعنَ أولاً النهرَ أم الزمن؟ ومن سيسبقنا الى القبر: الحياةُ أم الأحلام؟ ومن سنصدِّقُ في الظلام: الموتَ أم النوم، ومن دليلنا الى الزرقة في السماء: النجومُ أم العيون، ومَنْ سيحمِلُ مَنْ الينا: الزهورُ أم النساء؟ يا أخيَّة الشرق: في ضريحِ الخيال ما نتقاسَمهُ معا، أنت تأخذين اللقالق من الحرفِ العربيِّ، وأكتفي أنا من كتبية الباب بتلويحة المغادرين؟ أنا آخرُ صرعى الجنوب، أربعةَ عشرَ قرناً طويتُ، والظلالُ تتعقبني ماتزال، الغابةُ مضاءَةٌ بالمصابيح الزُّرق، لكنَّ أحداً ما لا يختلي بحبيبته هنا. يقول سيميك: ثمةَ شيءٌ في العالم يُسمَّى خيارُ البَّحر. لا أعرفُ شيئا عنه، لكنه يبدو بارداً ومالحاً. كنتُ قد سمعتُ بيسوا يقول: «البعضُ لديهم حلمٌ كبيرٌ في حياتهم، ويخونونَهُ، البعضُ الآخرُ لا حلمَ لهم بتاتاً، ويخونونه

أيضاً».