عنصرة الطبيعة الشعريَّة

ثقافة 2023/03/09
...

  رزان الحسيني

إن غنى الطبيعة في عصر الجاهليّة قد مهد بيئة شعرية خصبة للشاعر لأن يغرس فيها مبادئ الشعر الفنيّة ويؤسس للانطباعيَّة بأساليب غنائيَّة وحساسة تعكسُ مهارة الشاعر ودقته، فمنذ أن قال امرؤ القيس: (بعيني ظعن الحيّ لما تحملوا/ لدى جانب الأفلاج من جنب تيمرا/ فشبهتهم في الآل لما تكمشوا/ حدائق دوم أو سفينا مقيّرا). عرفت الذائقة الشعرية أنها لن تكون كسابق عهدها مجدداً، فإحياء الطبيعة بالكلمات له أشد وقعاً وأكثر طرباً على النفس من اللوحة الصامتة، أو من التأمل الأخرس.

 فكثرة الماء والنبات والظواهر الطبيعية الوقتية من المطر والرعد والبرق لم تكن تفارق الشعر القديم، بل كانت تعد كمطلعٍ مهمٍ للقصيدة، تُقاس مدى جودتها بتأثير الصور الطبيعية تلك. كما أن الطبيعة كما نعلم، لطالما كانت سراً سحرياً لغزارة إنتاج الشاعر وإلهامه، فهي مكوّن لا غنى عنه في إثارة القريحة الشعرية وتعميق المنظور الفنيّ للإنسان المُبدع.  قيل لشاعر: «کيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المخلية، والرياض المعشبة، فيسهل عليَّ أرصنه، ويسرع إليَّ أحسنه». كان التجوال من أبرز صفات أشعر الشعراء في العصور السابقة، وبما أنه قد انحسر مع تطوّر الحداثة وبناء المدن، كما انحسرت الطبيعة وتقلّصت، وقلّ اتصال الشاعر بالطبيعة والطرق والحيوانات وألوان السماء حتى عند سفره بسبب تطوّر المواصلات؛ أصبحت الرحلة لا تتجاوز التجوال داخل البلد، أو مرة في السنةِ لخارجه.

 وفي الحالةِ الأولى لا يمكن للعين أن تنبهر بما خبرَتهُ من الطفولة وعرفته، ومن ثم لا يمكن للقريحة أن تُثار وتثيرُ في الشعر، فأصبح مصدر المبدع الأول هو شبكة الأنترنت، من خلال ما يراه من الطبيعة في الأفلام السينمائية والمسلسلات، ما يُريد المُخرج الذكي للمُشاهد أن يراه، وما تلتقطهُ الكاميرا من مظاهر مُثيرة للانتباه، فضلاً عن الأدب القديم لشعراءٍ عرفوا الطبيعة منذ البداية، أو لكتّابٍ «وهم قلّة» تجاوزوا مصاعب السفر ومشقّاته في العصر الحالي واستطاعوا فعلاً أن يقبضوا على روح الفن في الطبيعة، وصياغتها في أنفسهم ثم على الورق. هذا الانحسار في مصادر الإلهام وتحديدها بشاشة الحاسوب أو حتى بالورق لا يمكنهُ سوى أن ينتج شعراً بلا هوية، ناقص التجربة وقليل النضج، حتى لو بان جميلاً، أو أعجبتنا فعلاً بضع صورٍ شعريّة، فالأشياء المزخرفة ليست بالضرورة عميقة المعنى أو شاعريّة من جميع الأبعاد.

في شعر الزمن الماضي يمكن للقارئ أن يتّصل بالناقة والخيل والصقر والبومة وكل المخلوقات التي يمكن للمرء مصادفتها حين يجولُ الأرض على قدميه أو على حصانه، ويمكن له أن يلمس النخلة وشجر الصفصاف والسرو والسنديان ويتأمل الصبار ويعرف أنواعه ويحذر من العناكب السامّة والثعابين، ويخاف العفاريت والغيلان، يمكن له أن يسبح في النهر الجاري وينظر إلى السماء بجوار الشاعر، أما في شعر الزمن الحاضر لا يسع القارئ سوى أن يصطدم بالحاجز الذي بنتهُ قلة التجربة وانعدام الاستكشاف، فيقرأ العربيّ صفاتٍ طبيعيّة لا توجد سوى في أوروبا، ويقرأ الأوروبي مثلاً صفات صحراوية أو حارّة لا تتواجد سوى في بيئة قارّة آسيا الوسطى، والافتراض الثاني لا يمكنهُ أن يكون قابلاً للتصديق لأن دول الخارج حافظت نسبياً على اتصالها بالطبيعة، وانعكست هذه الحقيقة على شعرهم، فظلّ محافظاً على أصالته. وهذا التضارب في الحقائق، وتشويش المحاكاة الانطباعيّة الفنيّة التي يروم القارئ الخوض فيها، تعكسُ هشاشة تسرّب الصورة الشعريَّة إلى نفسِ قارئها، مؤديّةً إلى بيت شعرٍ لا يلبثُ في الذهن حتى يتبخّر، مع ما يُشير إليه من شعورٍ إنسانيّ وموقفٍ حساس.

في الطبيعة العربيّة في العصر الحالي ما يكفي لصنع مجلّداتٍ من الأدب والشعر، ولا يتوصّل الاستكشافيّ العربي لهذا بحبّ الوطن وطبيعته التي تشويه صيفاً فحسب، بل بمعرفة تحليلية للشعر الحديث واحتياجاته، وإدراكٍ حقيقيّ لمكوّنات الأرض التي يعيش عليها، وشغفٍ كبير بعناصرها الشتائيّة والصيفيّة، المُثيرة للتأمل والباعثة على الشعور بالجمال. إن عناصر الإلهام الطبيعيّ لا تشتمل على العثور على الجمال واستنشاقه فحسب، بل تكمن في اقتناص الجمال الفريد المختبئ تحت أطنانٍ من القبح والتلوّث، تكمن في التقاط المناظر العابرة المُتحرّكة، العزيزة لأنّها لا تحدث دائماً، والجميلة لأنّها لنا. الإلهام ينبعث من الطبيعة البشريّة أيضاً، من العواطف الحزينة ومآسيها التي لا تنعكس على أعين أحد كما تنعكس على أعيننا. (لا تتركوني على شارع العمرِ وحدي كصفصافةٍ مُتعَبة)، يقولها محمود درويش، ولا أظن وقعها كان سيبقى هو، لو كتب كقيقبةٍ مُتعبة.

إنَّ ما نقرؤه للشعر الإنكليزي الكلاسيكي والقديم منه غير المُكتشف، يعرّفنا على أنواعٍ من الزهور لم نكن نعرفها ولا تنبت سوى في بيئةِ الشاعر نفسه، يقرأ لنا ما مات من مخلوقاتهم وما انبعث، ما يربطهم عاطفياً بشجرةٍ ما كما تربطنا العاطفة بالنخلة، وما وصل إليهم من خلال تاريخهم وشعرهم منذ القدم من أساطير ومواقف وحكايات وأمثال، تجعل من قراءة شعرهم رحلة لا أراديَّة تأخذك وأنت في مجلسك. وما نقرؤه من أدب اليوم يجعلنا لا نرغب للأجيال المقبلة أن تشعر بالشفقة علينا بسبب قلّة اتصالنا بطبيعتنا، وأنفسنا. 

نفهم أن تقلّص الطبيعة قد حدَّ من معرفتنا بالمخلوقات الحيّة غير البشريّة إلى ما يُعد على الأصابع في اليدِ الواحدة، وهذا ما نراه من تكرار مزعج في القصائد الحديثة للقطّةِ وطيور الحب والكلب وغيرها، لكن الشاعر لكي يشعر عليه أن يخرج من منطقة الراحة. يقول مظفّر النوّاب، وهو من أكثر الشعراء المعاصرين اتصالاً بالظواهر الطبيعية والأرض العراقية وما تنتج، ومن أكثر من تغنّى بالريحان والرازقي والأقحوان: (وتروح وتجي الأيام/ ألوليلك، بكلِّ الرازقي الميت على شبابيچ أمس/ والدنيا تمطر ليل، اگلك نام/ مامش كلشي بالشباچ، غير الريح، وطير بعيد/ ما يرضاش يحط ببلاد/ طير مصوّب بگلبه الصغير، ومشتهي بغداد). ولا يسعنا ذكر كل شعر النوّاب الذي علق بذاكرتنا لقربهِ منّا، ومن بيئتنا ومشاعرنا وحياتنا، فقصيدة «يا ريحان» و»بالخمر وبالحزن فؤادي» تكفيان. ولا تكفي المعرفة الجيّدة بالطبيعة وحدها لإنتاج صورة شعرية جيّدة، بل تتطلب أيضاً معرفة بالتراث والحكايا المتربة والأساطير الشعبية، وتعلّقاً بالعمرانية البلديّة والدرابين والعادات.

يمكننا أن نتعنصر للجمال غير البشريّ في سبيل الشعر، تلك الغاية النبيلة بحدِّ ذاتها، والرسالة الإنسانيّة الخالدة على مرِّ العصور، والرابط النقيّ الذي يربط المرء بنفسه، ونفسهِ بالأرض. نحن نملك نهرين، إن كانت تلك دلالة على شيءٍ فلا بدَّ لها أن تكون إشارة للشعراء على غزارة مُلهماتنا، والجواهري سمع ذلك النداء ووظفه. لدينا للأبد صلابة وحكمة العاقول، ورقّة الياسمين، تحت المطر، أو في مهبِّ الريح، لدينا قوة النخلة، ومأساة جذعها المحروق أو المنقول في عصرنا الحاليّ، لدينا جرأة شقائق النعمان وحنينه، ولا مبالاة النرجس البريّ، وصفاء الاقحوان الجميل، وماء الزهر وعطر النارنج وشعلة الجهنميّات، وأخيراً وليس آخراً في ملفِ النبات، كان ليكفينا

 الخزامى!