غياب الابتسامة وخلود المواقف

ثقافة 2023/03/11
...

  إحسان العسكري

اعادني نبأ رحيل المبدعة ابتسام عبد الله إلى حقبة الخطى الأولى لي في مسيرة الصحافة مطلع عام 1994، واللقاء لأول مرة مع صحفية مرموقة بمنزلة الراحلة، إبان محاولاتي لكتابة المقالات في الصحف العراقية، مستثمراً بذلك قربها من معلمي الراحل أكرم علي، حيث كانا يعملان معاً.

ولم أنسَ الراحلة وابتسامتها، وهي تعلق على المقال: "خطك اتعبني، ولكن ما قرأته أسعدني سأتصل بجريدة القادسية وسينشر، 

أنت تفكر بصوتٍ عال، وبهذه الطريقة أعتقد أنك ستكون 

كاتباً". 

لم أتمكن، آنذاك، من اخفاء انبهاري برؤيتها وصدمتي بأنها امرأة طبيعية على غير ما توقعته، فمشاهير الإعلام والإذاعة والتلفزيون لهم في مخيلتنا "نحن جيل القناة الأولى" هالة تليق بهم، خاصة النساء العاملات في هذا الشأن.

لم تختف ابتسامتها من مخيلتي منذ أيام جريدة الجمهورية، وحتى آخر أيامها ما زالت هي صاحبة النظرة الأولى، التي تقع مني على أي صحفية

مرموقة. 

ابتسام عبد الله حكاية انطلاقة في زمن يصعب على العراقية الخالصة أن تنطلق فيه ومجرد بروزها بهذه الكيفية، يعد سابقة مهمة تستحق التوقف والتأمل والقراءة، فنحن بصدد الحديث عن انطلاقة فتاة ولدت في مدينة متعددة الأعراق والقوميات واللغات، ودرست التعليم وتربت في بيت رجلٍ عسكري وتزوجت أديباً، ثم دخلت مجال الصحافة الرسمية والإذاعة و التلفزيون، فكانت نافذة المرأة العراقية المثقفة، التي تطل على المجتمع عبر برنامجها "نافذة على العالم"، وكذلك قربها من مصادر القرار المنظماتية ذات العلاقة بالصحافة، فكان لقائي الثاني بها إبان عضويتها للهيئة الادارية لنقابة الصحفيين العراقيين، حينها وجدتها بالابتسامة ذاتها وتلك الشخصية، التي جمعت بين بساطة المرأة العراقية وقوة شخصية الأديبة 

القائدة. 

فكم المعرفة المجتمعية والثقافية لديها يجعل من الذي يتشرف بلقائها يشعر أنه وظف وقته لما فيه مصلحته واستزاد بما ينفعه، كانت الراحلة غزيرة الطيبة والذوق، حتى أنها في كتاباتها عرفت كيف تعلن حقيقتها، خاصة وهي تقص أحداث ثورة بطريقة مختلفة تضع القارئ أمام نمط جديد في كتابة القصة حينما، وثقت أحداث ثورة الشواف الموصلية عبر منجزها المهم (فجر نهار وحشي)، وقبل إصدارها لأعمالها قدمت عبدالله عدداً من البرامج التلفزيونية، إعداداً وتقديماً، مثل (مجلة المرأة) و(حوار وشخصيات) و(سيرة وذكريات)، قضت سبعة

أعوام. 

لقد أحب الناس برامجها، لا سيما التي استضافت فيها شخصيات مؤثرة في المجتمع العراقي، وحين انطلاقتها بالترجمة واختيارها لأعمال عالمية مهمة، وضعت لنفسها اسماً مهماً بين الأسماء الكبيرة في الوسط الأدبي ولما تزل، خلدت أعمالها كما خلدت مواقفها مع جميع من تعامل معها، فكانت الإنسانة المحبة لبلدها المحترمة لمهنتها وأدبها وثقافتها، وهوية مجتمعها لم تتخذ من الحرية في النشر والكتابة، منطلقاً يعبر 

عن غضب ما أو يؤدلج لشيء 

مخالف للقيم، التي تربت عليها واحترمتها. 

ابتسام عبدالله الدباغ لا يمكن أن توصف وصفاً محدداً، فهي الكاتبة والروائية والمترجمة والصحفية المسؤولة والقائدة في مسيرتها المهنية، ومقدمة أشهر برنامج (سيرة وذكريات)، ذلك الذي كنا نتسمّر أمام التلفزيون ونجتمع لمشاهدته، وهي الإدارية الناجحة والإنسانة قبلاً، والمتسمة بالطيبة والسكينة والذوق، تجيد اختيار مفرداتها كما تجيد اختيار الأعمال التي تترجمها، فضلاً عن قدرتها في تحويل الوجع لشيء مقبول، كقدرتها على دخول الأرواح بتلك الابتسامة الرقيقة.. لا يمكن لكلمات مكتوبة أن ترثي امرأة بمقدرة ابتسام الدباغ، ولكن هذه هي أحوال الدنيا، وعزاؤنا أنها خالدة بما تركت من أعمال رائعة ومهمة في كل مكتبة مكتبات العراقيين.