لكلِّ حكاية شجرة ولكلِّ شجرة حكاية

ثقافة 2023/03/11
...

 لؤي حمزة عبّاس

إنَّها مجموعة ياسمين حنوش القصصيَّة، بطاقة دخولها لمحفل السرد الحاشد بكل تنوع كتابي، وتلك هويتها التي تُفصح عن تطلع كاتبتها لإنجاز فرديتها، وقد اتخذت من حياة النبات العراقي فضاء واسعاً، متعدّد الأصوات، لسرد قصص (أرض الخيرات الملعونة)، سرديات قصيرة متضامنة من (عالم النبات العراقي) تمتد مروياتها وتتغصن ماضياً وحاضراً، امتداد أرض العراق كثيرة الخيرات واسعة اللعنات، لسرد تجربة الإنسان على هذه البقعة المحيّرة من العالم.

النبات الذي طالما وقع عليه حيفُ الإنسان، يتولّى في مجموعة ياسمين سرد بعض ما عاش وما رأى، منتقلاً من هامش القصص إلى متونها، فيغدو بطلاً وراوياً، مثلما يغدو جزءاً حيّاً مما يروي، إنه يحقق معادلته السرديّة لما مثّله حضوره على مرور الأزمان، من دون أن يتخلّى عما لعبه طويلاً من أدوار بين الشهادة والشهود، فتروي النباتات تجاربها، المتخيلة منها والواقعية، وتتحرّك حرّةً في زمان السرد، موقّعةً قصصها بتواريخ تتشابك مع تواريخ العراق الفارقة، وتُفصح عن بعض وقائعه الموغلة في القدم منها والأشد قرباً وحميميَّة، لتؤدي العتبات النصيَّة، في قصص المجموعة، دوراً في إضاءة ما تقوله النصوص القصصيَّة وتعمق دلالته، وهي تقنية تضع القصص خارج زمنية كتابتها، فتبدأ من تاريخ الرحلة الراهنة (الشلامجة 2020) باتجاه ما هو أبعد فأبعد (الشيخان 2017)، (القوش 2015)، (الموصل 2011)، (غرب النجف 1989)، (حلبجة 1988)، (قصر الرحاب 1973)، (القرنة 1966)، (أم الطبول 1959)، (جسر الشهداء 1948)، (ناحية أبو صيدا 1935)، (كركوك 1927)، (الحلة 1921)، (العمارة 1914) وصولاً لتاريخ لا حد له هو (الأزل)، حيث شجرة الزقوم تحكي حكايتها، "أمكث في أصل الجحيم، أدبّر طعام الأثيم، قطرة واحدة من طلعي الذي يشبه رؤوس الشياطين كفيلة بمرمرة عيش أهل الأرض قاطبة".

يروي النبات عجائبه، من قصة إلى أخرى، ويعيش، عبر السرد، تراجيديا حياته كما عاشها على أرض العراق، لتحتفي مجموعة ياسمين حنوش بما تقدّمه الرؤية النباتية عن العالم، وتعتمده إطاراً ألغورياً يضيف لسرد الطبيعة جانباً شديد الخصوصية والابتكار، وتضعنا في النهاية أمام كتاب تنتظم قصصه القصيرة في عقد سردي مبتكر يمثل تاريخ كلِّ نبتة فيه ذاكرةً قصصيةً حافلةً تحتشد بالوقائع والصور. 

تفتتح مروية شجرة اللبلاب المجموعة وهي تنظر لسرد القصة أكثر مما تتورط بما تقول، اللبلاب شجرة توجّه أنظارها نحو معنى القص النباتي وآلياته محددةً الإطار الجامع للقصص، لتحقق في مرويتها القصيرة مستوى من التطابق بين طبيعة النوع النباتي الذي تمثله ووظيفتها داخل المروية القصصيَّة، "أنا أطار. نوعك مولع بالقصص المؤطّرة لذا جئت أحزم لك الشجر قصصاً متنوعة في باقة عجيبة تنتقي منها ما تشاء. أقرأها في ترتيبها الزمني كما جاء على يد البشر، أو أعد ترتيبها في دائرة البيئة التي نشأ منها كلُّ نبات، أو اقتلعها من جذورها وأعد انباتها في سياق آخر. افعل ما شئت. ليست لي تقنية أدبية محدّدة، وعلى ذلك فلن أحدّد مسار أفكارك". لا تمثل اللبلاب القصة، في منظومة النبات وعجائب مروياتها، بل إطارها الذي تُفيد عملية انتاجها الأدبي من خصائصه النباتية وتغتني بها "أتشبّث بالنباتات الأخريات وألتفُّ بطريقة حلزونيَّة حول ما أقع عليه من حكايات لأضفي عليها وحدة المفهوم". وهي بذلك تُعدُّ نفسها لصوغ حكمة الشجر والتعبير عن رحلة حياتها، فـ "لكلِّ حكاية شجرة، ولكلِّ شجرة حكاية"، وليست حكاية الأشجار سوى مروية أخرى عن عالم تشترك فيه الكائنات جميعها، وما يؤدى من منظور الأشجار يوسّع، بلا شك، مروية العالم المشترك، ويُسمعنا، نحن البشر المتمركزين حول ذواتنا، أصوات ما يحيطنا من كائنات حملت هي الأخرى عبء المركزيّة البشريّة وقد حمّلت العالم ما لا يُعد من الأخطاء. إن الموت الذي تفتتح به شجرة الصبير حديثها، يعبّر عن ذلك بصراحة ووضوح 

"كلنا أهداف متحرّكة يستهدفها الموت من دون توقف. نقضي الحياة في لعبة التخفي منه حتى يباغتنا في النهاية. وتُحسم اللعبة لصالحه دائماً". لذاكرة الأشجار حضورها المؤثر في المجموعة، فخطاب الشجرة لا يكتمل بغير ما تفيض به تجارب حياتها الطويلة الحافلة، إنها تُدرك أثر مخزوناتها في توجيه مروياتها، الأثر الذي يتسلّل إلى مرويات الكثير من أشجار المجموعة مرصّعاً حديث حاضرها بما حملت من أضواء ماضيها، فالبلّوطة تقول "أنا شجرة غليظة الهيكل، رأيت ما رأيت من ظلم وقهر وطغيان خلال القرون التي عشتها على هذا التل المشرف على وادي الصمت"، مثلما تؤكد أن "معظم القصص التي مرّت عليَّ لا تختلف كثيراً عما يشاكلني من أشجار من هذه الناحية الريفيَّة القاصية"، إنَّ المشاكلة الشجريَّة لا تقف عند حدود النوع وطبيعته، بل تتعدى ذلك للوصول إلى نسيج الذاكرة، على اختلاف محمولاته بين شجرة وأخرى، وهذا الاختلاف يمنح كلَّ شجرة من أشجار المجموعة الحق في سرد قصتها وتلمس أثرها على حياتها، تقول البلّوطة "أريد أن أطلعكم اليوم على قصة واحدة حوّلت حياتي إلى جحيم لا عودة منه، وجعلتني أكره الرجال ومعداتهم وما يفعلونه بغيرهم وبالأرض، بما فيهم ذلك المزارع الذي أنبتني وأطعمني وقلّمني منذ نعومة فروعي"، لتبدأ سرد واحدة من قصص التوحّش البشري التي أحالت غنيمة، الفتاة ذات الوجه النوراني، إلى كتلة مسحوقة من لحم وعظم معلقة على أحد أغصان البلّوطة، تنهشها النسور والعقبان، "لا مفر من ذاكرة الأشجار اللعينة"، تصرّح البلّوطة وهي تأصّل رحلة غنيمة في طريق آلامها من جبل سنجار حتى غربي الموصل، تحكي الشجرة ما شهدت من فجائع وقد صارت منصة إعدام لغنيمة، بعد أن يعيش النور واحدة من أقسى مواجهاته مع الظلام، ليس سوى الأشجار من ينهض بأداء رسالة غنيمة وأمثالها ممن وقعت عليهم أفاعيل الظلام البشري، لن تتحرر ذاكرة الأشجار من عبء محمولاتها إلا بسرد بعض مما شهدته من أهوال، وهي القصص التي يكون بمقدورها أن تُعيد بناء ما تهدّم من الأواصر بين الإنسان والشجرة، بعد أن تقطعت الجسور بين الإنسان وأخيه الإنسان، وفي مثل هذا المنظور تسرد الزيتونة قصتها، وتمرّ على قصة إلياس الرجل العجوز الذي ترعرعت في حديقته الخلفية، بعد أن حمل جد النبتة من أصقاع بعيدة، إنه الوجه الآخر للحياة، وجه الألفة والطمأنينة والحنو الذي يغمر الكائنات ويقرّب فيما بينها، تلك الطمأنينة وقد أعشبت على حافة نزاع دموي، كان الجد نبتة لاجئة مثل إلياس، تقرّب مروية الاغتراب بين الإنسان والشجرة، وتجعل كلاً منهما امتداداً للآخر، وتداخل بين قصتيهما، فتكون قصة الإنسان ظلاً لقصة الشجرة، مثلما تكون قصة حياة الشجرة إطاراً لقصة الإنسان، ولن تكون للزيتونة هوية في تحولات غربتها، سوى جملة الرحمة الإلهيَّة الغامرة: "أما إلياس فقد كان يتجنب الكلام عن أصلي وفصلي، حين يسأله الناس من أين أتى بي، كان يمازحهم قائلاً: 

ـ هي زيتونة، لا شرقية ولا غربية".

في مجموعة ياسمين حنوش تتواصل محكيات النبات العراقي على امتداد ست وثلاثين قصة ترويها ست وثلاثون شجرة، تستقطر حكمتها من فيض الذاكرة العجيبة للأشجار، مستعيدة واحدة من أعمق صلات الإنسان بما حوله، الصلة التي تحفّز الإنسان للنظر إلى الطبيعة على اختلاف كائناتها بوصفها عناصر حية فاعلة، لا يتواصل وجود الإنسان ولا تكتمل حكايته إلا بها ومن خلالها.  


ـ ياسمين حنوش، أرض الخيرات الملعونة، قصص من عالم النبات العراقي، الدار الأهلية، عمّان 2021.