أنطون تشيخوف في مذكرات الكاتب الروسي إيفان بونين

ثقافة 2023/03/12
...

   ترجمة وإعداد: أويس الحبش


كتب الكاتب والشاعر الروسي إيفان بونين عن أنطون تشيخوف في مذكراته التي كتبها في الأعوام الأخيرة من حياته تحدث فيها عن فترة جمعتهما فيها علاقة صداقة من عام 1895 حتى وفاة تشيخوف عام 1904. حيث قابله خلال رحلاته الى يالطا وموسكو.  وكتب إيفان أيضا كتاباً تناول فيه حياة أنطون تشيخوف ولكنه لم يكمله إذ توفي عام 1953.


لخص الكاتب في مذكراته اللقاء الأول مع أنطون تشيخوف بقوله إنّه تعرف عليه في موسكو في نهاية عام 1895، فيقول: قابلني تشيخوف بحرارة، ولكنني ترجمت بساطته هذه وتواضعه على أنّها نوع من

البرودة.

- ثم سألني، هل تكتب كثيرا يا بونين؟

- أجبته، بأنّني قليل الكتابة!

- عبثاً، (قالها بشيءٍ يشبه التهكم بصوته المنخفض العميق) فأكمل حديثه مستدركا: يجب أن نعمل - نحن الكُتّاب- طِوال حياتنا من دون أن نرخي أيدينا......

ثم صمت تشيخوف قليلاً وأضاف قائلاً:

- برأيي بعد كتابة قصةٍ ما، يتوجب علينا أن نشطب المقدمة والخاتمة، لأن هذا هو المكان الذي نحن - معشرَ الكُتابِ- نُكثِرُ فيه من الخيال معظم الوقت، ويجب أن نكتب بإيجاز قدر المستطاع.

بعد لقاء موسكو لم أقابله مرة أخرى حتى ربيع عام 1899. 

عندما سافرت في ذلك العام الى مدينة يالطا، قابلته في إحدى الليالي على الشاطئ.

-  قال لي: لماذا لم تمرْ بي؟

يجب أن تأتي غدا.

-  سألته: متى؟

-  قال: صباحا عند الساعة الثامنة.

وعندما لاحظ التعجب على وجهي، هم يشرح قائلاً بأنّهم عادةً يستيقظون باكرا، ثم سألني: ماذا عنك؟

-  قلت: وأنا أيضا استيقظ باكرا!

- جيد إذا، مرَّ بي فور استيقاظك غدا، سنشرب القهوة عندي.

بعد ذلك مشينا على الشاطئ وجلسنا على أحد المقاعد.

- سألته: هل تحب البحر؟

- أجابني نعم ثم أردف قائلا: من الصعب وصف البحر كما تعلم، ولكنني قرأت ذات مرة في دفتر ملاحظات أحد الطلاب وصفا جيدا عن البحر “كان البحر كبيرا” وهذا برأيي كان وصفاً عظيماً.

عندما قابلتهُ سابقاً في موسكو كان تشيخوف كأيِّ رجلٍ ثلاثيني، طويل القامةِ، رشيقُ الجسمِ وكان خفيف الحركة، ولكنني في يالطا وجدته قد تغير كثيرا، كان قد خسر كثيرا من وزنه، إلا أنّ حركته كانت بطيئة وصوته منخفض جدا، ولكنه بشكل عام ظل كما هو: متلهفٌ دائماً للقاءات، لكنه يبدو مقيداً بشيء ما، يتحدث كعادته بلباقةٍ وخفةٍ وبساطةٍ ولكن بإيجاز أكثر، تراه أثناء الحديث مشغول البال فيظل شارداً، تاركا للمُحاوِر مجالاً ليجمع شتات افكاره.

 في اليوم التالي للقاءنا على الشاطئ ذهبت الى منزله. مازلتُ اذكر ذلك الصباح المشمس الذي قضيناه معاً في فناء منزله.

ومنذ ذلك الوقت أصبحتُ أكررُ زياراتي إليه، حتى صارت زياراتي له تقريبا من روتيني اليومي، وبالطبع، هذا ما جعلَ علاقتنا تكون أكثر وديةً وأبسط، فَرُفِعت الكلفةُ بيننا. 

ولكن شيئا من الحذرِ بقيَ في نفسهِ، إذ كان حذراً ليس معي فحسب وإنما مع جميع المقربين إليه، كانت البرودةُ واضحةً عليه، لكنها لم تكن كما فهمتها في البداية، لاحقا أدركتُ أن تشيخوف كان يتعاملُ مع الجميع باحترام وودٍّ بغض النظر عن وضعه الاجتماعي، فتلك البرودة  التي أبدت لي أن تشيخوف يظهرها ماكانت إلا شيء من ضبط النفس إذ كان - بعض الشيء- كتوما في داخله. 

إنَّ الكوخ الأبيض في آتوكا، او كما يسميه أصدقاؤه البيت الأبيض، مع حديقته الصغيرة التي يهتم بها كثيرا، إِذ إنه كان يزرعها بنفسه، فأنطون كان محبًا للأشجارِ والزهورِ.

 مكتبه في نهاية المنزل، كان مكتبه مزينًا بلوحتين أو ثلاثة للفنان (ليفيتان)، ونافذة نصف دائرية كبيرة تخلقُ إطلالة جميلة على البحر.

تلك الساعات والأيام وأحيانا الشهورالتي قضيتها في ذلك الكوخ ستبقى دائما من أفضل ذكرياتي.

كان يضحك كثيرا عندما كنا معا، وكان يحب أن يخترع الألقاب للسخرية والمزاح، كان يضحك دائما عندما يروي شخصا ما قصة مضحكة، حتى هو كان يستطيع أن يروي أكثر الأشياء إضاحكا ومن دون أن يبتسم حتى.

أما حذره وهدوءه فكانا بسبب الأمور التي كان يكتمها، فمن كان يسمعه يشتكي؟ على الرغم من أن أسباب الشكوى لديه كثيرة، فعندما كان طالبا كان يعمل ويدرس، ويصبر كثيرا على رغباته بسبب الفقر، كان يعمل لساعات طويلة وبأجر زهيد ليستطيع أن يكمل تعليمه، ولم يسمعه احد  يشتكي من  القدر أبدا على الرغم من أنه كان مريضا لـ 15 عاما بمرض صعب ولم يعلم أحد بذلك حتى سنواته الأخيرة.

كانت تسأله أمه دائما عن حالته عندما تراه يجلس على كرسيه طوال النهار مغمضاً عينيه، فيُجيبها بهدوء بأنَّ كل شيء بخير وبأنّه صداع خفيف لا أكثر.

قد أحبَّ تشيخوف الأدب كثيرا وبالأخص أعمال (تولستوي) و (ليرمانتوف) وتكلم عنهم كثيرا، ولكنه لم يكن يكلم ضيوفه عن الأدب إلا إذا كان ضيفه محباً له.

كان تشيخوف يكرر دائما “لا يتوجب على أحد ان يقرأ أعمالك قبل الطباعة، ولا يتوجب عليك سماع نصائح الآخرين بكلماتك، وإذا أخطأت؟ دع هذا الخطأ ينتمي إليك وحدك فقط، وعليك أيضا ان تكون شجاعا في عملك”.

كم من الملاحظات الوقحة سمعها تشيخوف خلال 25 عاما من العمل الأدبي. لم يكن النقاد عادلين معه على الدوام.

قال لي مرة “تجلس لتكتب فقط عندما تشعر بالبرودة كالجليد” على الرغم من أنني لم أره أبدا بارداً أو حتى غاضباً، حتى عندما يكون غير سعيد كان يجيد إخفاء ذلك”.

ذات مرة قال “إنَّ على الكاتب أن يكون فقيرا حتى لا يجرأ على الكسل، فيعلم بأنّه إذا توقف عن الكتابة سيموت جوعا”. وأحيانا كان يقول العكس تماما “الكاتب يجب أن يكون غنياً بما فيه الكفاية حتى يستطيع السفر حول العالم ليتعلم”.

واحدة من ذكرياتي الأخيرة معه كانت في ربيع عام 1903 الذي أتى باكراً. كنّا في يالطا، وكنت مقيماً في فندق (روسيا)، وفي وقت متأخر من إحدى الليالي طُلِبتُ إلى الهاتف، فنزلت لأجيب.

كان تشيخوف من اتصل وقال لي:

- اِستقل عربة جيدة وألحق بي، سنذهب للتجول في المدينة.

- للتجول؟

الآن؟

هل هنالك من خطب؟

- أجابني: لقد وقعت بالحب!

- إنَّه أمر جيد يا أنطون ولكنها الساعة العاشرة والطقس بارد، ستصاب بنزلة برد!

- لا تناقشني أيّها الشاب، فقط تعال.

وخلال عشرة دقائق كنت قد وصلت إليه، دخلت الكوخ حيث كان يقطن مع أمه في الشتاءِ فقط. كان الهدوء والظلام هما المسيطران على الأجواء كما جرت العادة في كوخه، وكالعادة دائما عندما أرى مكتبه يعتصرني قلبي، فكم من ليلةٍ قضاها تشيخوف هنا بمفرده؟ ليالي كانت مليئة بالأفكار المريرة حول القدر

والمصير.

 قابلني على عتبة المكتب، وقال لي بلطفٍ غير معتاد: يا لها من ليلة. 

كانت ليلة هادئة ودافئة مع قمر مكتمل في السماء بجانبه بعض الغيوم والنجوم.

-  لكم من الوقت سيقرأ الناس قصصي؟ سبع سنوات؟

-  لماذا سبعة؟ سألته مستغربا.

-  حسنا، لتكن سبع سنين ونصف.

أجبته بالنفي، وأكملت: - الأدب يعيش طويلا، وكلما عاش أطول كان أقوى.

لم يجب تشيخوف بشيء، نظر إليَّ فقط بعينيه اللطيفتين والمتعبتين.

-  تبدو حزينا اليوم! نظرت إلى وجهه الشاحب وسألته: ما خطبك يا أنطون؟

-  نظر إليَّ وقال ممازحا: أنت الحزين، لأنك أنفقت النقود الآن على العربة! وأضاف بكلام جاد:

-  سيقرؤون قصصي فقط لسبع سنوات، أما أنا فبقيَ لي فقط ست سنين لأعيشها أو أقل، ولكنني أترجاك لا تخبر الصحافة بذلك!

في هذه المرة كان انطون مخطأَ، لم يعش ستَ سنين، فقد توفي بعد ذلك بعام ونصف تقريبا!

كنت قد تسلمت آخر رسالة منه في منتصف شهر حزيران عام 1904، كان يعيش حين إذ في قرية صغيرة ليست بعيدة، كتب لي حينها بأنَّ صحته ليست سيئة وأنّه بخير.

وفي الرابع من تموز ذهبت لمكتب البريد من أجل الصحف والرسائل. كان يوماً حاراً مع ريح غربيّة جافة. فتحت الجريدة، وفجأة أحسست وكأنّني طُعِنت بخنجر في صدري، كان خبر وفاة تشيخوف صدمةً

كبيرةً. توفي بهدوء ومن دون آلمٍ وعذاب، في سكينة وجمالِ فجر نهارٍ صيفي، كما أرادَ دوماً.