عواطف مدلول
لم يفكرْ ولو لمرةٍ واحدةٍ في حياته أن يتنازل ويعتذر عن سوء تصرفاته أو طريقة تعامله مع أي إنسان قريبًا كان أم غريبًا، مهما يكن وضعه ومكانته، معتقدا أن ذلك سوف يقلل من شأنه وقيمته، لا سيما أنّه عرف بشخصيته القويَّة، التي لا يكسرها موقف أو حدث.
تربى في البيت على أنه المفضل والمدلل، فهو الابن الأول لوالديه، ولذا تغتفر جميع أخطائه، ذلك الذي شجّعه على الاستيلاء على حقوق أخوته بالحب والحنان، فبقيَّ طوال سنوات عمره الـ22 يثير المشكلات لهم، وعلى أتفه الأمور إلى جانب متطلباته التي لا حدود لها، بالمقابل فإنَّ الجميع يسعى لكسب رضاه، لأنّه حلمهم الجميل، الذي يعملون جاهدين في سبيل أن يكبر ويكتمل، فينظرون له بعين الفخر والاعتزاز، خاصة بعد التحاقه بالجامعة وتفوقه بالتعليم الذي لم يفلح به شقيقه الأصغر، لأنه تعرض لمرض منعه من عبور مرحلة المتوسطة، وبالنهاية اضطر للعمل لمساعدة والدته الأرملة، في توفير لقمة العيش للأسرة المؤلفة من أم أنهكتها الأزمات والمصائب، وأخت صغرى في المرحلة الابتدائية، لم ترَ والدها، الذي غيبه الموت جراء حادث سير، وأخ أكبر بمثابة المثل الاعلى والقدوة له لكونه يتمتع بكل مقومات النجاح، الى جانب شغفه الاهتمام بالاناقة والثقافة والسفر.
الابن الكبير الذي طالما هيأت له الأسرة أعذاراً مقنعة لعدم تحمله أي مسؤولية تجاهها، حرصا عليه من اجل التفرغ للدراسة وصناعة المستقبل الزاهر، الذي سوف ينقذها ويحقق لها أحلامها، فكان من المستحيل أن تنسب له صفة التقصير معها.
وبذلك فإن الحياة منحته الحظ الوفير، كي يحيا مثلما يريد، متحررا من أي قيدٍ أو همٍ يثقل تفكيره، فصار يتصرف أزاء كل ما يجري من حوله ولا يخصه بشكلٍ مباشر ببرودة أعصاب وتجاهل ملحوظ، اذ لا يمنح ولو جزءا من وقته عندما يمرض أحد أفراد البيت، كي يقدم بعض العون والرعاية له، بل لا تبدر منه مشاعر التعاطف بتلك الحالات، فغالبا ما يقف أمامها بكل صلابة و(صلافة) متفرجا لا أكثر، ثم يدير ظهره بلا مبالاة للانصراف نحو نفسه.
في الحادثة التي دارت بظهيرة ذلك اليوم، الذي خسر به شقيقه الوحيد، بعد أن خاض فيها معركته بمفرده، أمام مع من ينافسه بالعمل، ويحاول أن يقطع رزقه في إحدى الأسواق الشعبية، وعلى إثر شجارٍ عنيف استخدمت فيه الأسلحة البيضاء، فقد حياته التي قضاها بالهموم والمعاناة.
لم يجد ماذا يفعل وهو يجلس عاجزا بجوار جثة أخيه، الذي لم يكن سندا له يوما ما، حتى عندما كان يشكو من مضايقات الآخرين له وأفعالهم العدوانية مع سلوكه المميز، في جذب الزبائن له بالعربة، التي يبيع بها بعض أنواع الحلوى المصنوعة بالمنزل من قبل والدته، اذ لم يظهر أي ردة فعل تدعمه وتشجعه على السير بثقة، من دون الالتفات إليهم وتجنبهم وعدم الدخول بمشاحنات معهم.
فكانت تلك المرة الوحيدة التي تهتز بها عواطفه، وبلحظات بدت له الحياة، وكأنها فارغة من كل البشر، صرخ ببكاء هستيري معلنا ندمه: آسف أخي لقد تأخرت عليك كثيرا.