عراقوش.. كوميديَّات الوعي المُحاصَر

ثقافة 2023/03/13
...

 ريسان الخزعلي


(1)

شوقي كريم حسن، مبدع متنوّع الإبداع، يُقيم صلاته الإبداعيّة مع الواقع بمجسّات الرواية والقصة والمسرحيّة والمسلسل الإذاعي والتلفزيوني. ومن هذا التنوّع يكون اكتشاف وضوح وسريَّة الواقع طيّعاً بطريقة بانورامية تتواشج فيها هذه الممكنات بحسيَّة مركّبة تتشاغل فيها الحواس مجتمعةً وبتجاور مع ظلال المخيّلة. ومخيّلة شوقي كريم مخيّلة ببعدين: مدينيّة الاستغراق، ريفيّة الأطياف.

إنَّ هذه التوصيفات لا تستطيع أن تحقق ثباتها في العمل الإبداعي ما لم يكن الوعي دالاً إليها، كاشفاً عنها، وممسكاً باستطالاتها في الوقت ذاته، وهذا ما تتمتع به أعمال شوقي كريم القصصيَّة والروائيَّة، ومنها مجموعته (عراقوش).

(2)

عراقوش، جاء توصيفها بأنّها (مسرودات قصصيَّة) تجاوزاً للتسمية المعتادة: مجموعة قصصيَّة أو قصص. ومثل هذه التوصيف قد يوحي بأنَّ ما جاء في المجموعة ما هو إلا إعادة صياغة لما تمَّ سرده بواسطة آخرين - شفاهياً كان أو توثيقيّاً - إذ إنَّ (مسرود) صيغة (مفعول) تُحيل إلى الماضي، والسارد لا يُخفي ذلك: (السيناريو لعبة تتكرر عبر الأزمان من دون طلب من أحد.. حكايات ترويها المواقف والأيام، يجد مَن يهتم بأصولها وفروعها الكثير من المتشابهات والمتّفق عليها).. هكذا كان الاستهلال في (كوميديا الوجوه - أوّل مسرودة في المجموعة). إذن نحن في مواجهة سيناريوهات لحكايات حصلت وتحصل، ولكن ببراعة توشيج بين أزمانها لتكون دالّةً على الحاضر بإسقاطٍ كوميدي، مُقنّع تارةً، وأخرى بالوجه الحقيقي

المكشوف. 

وهكذا توالت الكوميديات: كوميديا الوجوه، رؤيا مدجنّة – وهي الوحيدة التي لم تحمل توصيف كوميديا رغم أنّها في المناخ ذاته، كوميديا الشيطان، كوميديا الفائز، كوميديا التوحّش، كوميديا النفايات، كوميديا المقهى، كوميديا الواهم، كوميديا الهبش، كوميديا التائه، كوميديا التشظّي، كوميديا الكتاب، كوميديا القاع، كوميديا الشبيه، كوميديا الممثل، كوميديا الحارس، كوميديا الأرباب، كوميديا الميت، كوميديا القصب، كوميديا وقحة، كوميديا الإثم، كوميديا العاشق، كوميديا الملاك، كوميديا الحجر، كوميديا الخنفساء. ولا يستطيع هذا الانطباع أن يكشف مضامين هذه الكوميديات بقدر ما يحاول أن يُضيء بعض سريّتها الفنية/ الجمالية ووعي انتاجها، إذ إنَّ كشف أو شرح المضامين لا تقوى عليه إلا الكوميديات ذاتها، كما أن مثل هذا الشرح سيقع في إعادة انتاج النصوص بطريقةٍ إنشائية تُفقدها ممكناتها اللغوية الذاتية.

(3) 

إنَّ الإشتغال الفني الذي طبع المجموعة، يقوم على مفاعلة ما هو محلي عراقي شفاهي مع غيره مما هو ثقافي وأدبي وديني وخرافي من منابع عدّة. فمن حكايات ومخيلات الأب والأم والجدّة والجيران والعامّة من المجتمع إلى براعات (شكسبير وبرناردشو). ومثل هذا الاختلاط المحلي والمعرفي يُشير إلى المحنة الوجوديَّة في عالم التعارضات، يُشير إلى محنة الوعي وإدراك حدود الوعي على السواء.

(4)

عراقوش، لا تنتمي إلى عالم السرد الخالص، إذ من غير الممكن أن تمسك بمحددات تنميط السرد، إنّها نصوص تأمّل وتلميح واستغراب وكشف وإدانة لما يحصل. نصوص حالات ومراجعات وتداخلات يتخللها سرد خاطف وحوارات خاطفة أيضاً. كما أنَّ اللغة واللهجة يتفاعلان بتناوب ليكونا وعاءً أوسع يُناسب طبيعة الكوميديات بين حدّي المحليَّة والمعرفيَّة، وإنَّ الاستغراق اللغوي هو المهيمن الأعلى الذي يُراود فكرة المسرودات عن بُعد. من هنا يصح التوصيف بأنَّ/ عراقوش/ نمط خاص يُجاور السرد وما هو خارج السرد، نمط السخريَّة السوداء، ولا أدّعي هنا بأنَّ القاص قد اطلع على كتاب (مختارات من السخريَّة السوداء لأندريه بريتون). لكنَّ الانفراد يُقارن

بالانفراد.

إنَّ كوميديات شوقي كريم ما هي إلا كوميديات الوعي المُحاصَر. ورغم هذه الكوميديَّة، إلّا أنَّ دالّها ومدلولها يكشفان عن الوجه الآخر للواقع، وجه التراجيديا. وهذا ما يؤكدهُ قول شوقي أيضاً في (سؤال الهامش) الاستهلالي، وهو سؤال خُلاصة المسرودات وجوابها الضمني: 

رأيتُ ما رأيت، فهل يحقُّ ليَ الآنَ أن أضحك؟.. أضحكُ، أضحكُ، وإن كانَ ضحكا

كالبكاء..!.