محمد جعفر الحسن
الناس في بعض الأحيان، تتبع الرأي العام، مع معرفتها بأنّه يتناقض مع الصالح العام بالمجمل، فهل الحنين لزمن الديكتاتورية، أو تفضيله على هذا الزمان يدخل ضمن هذه النظرية، أم هو حنين لذلٍّ عاشوه، أو هو شيء آخر؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من القول بأن الطبقة السياسية الحالية اساءت كثيراً لقضية العراق، ووضعت نفسها موضع المقارنة مع النظام السابق الذي لا يمت للإنسانية بصلة. وبالتالي فهذه الطبقة، وفرت المبررات التي يختبئ خلفها الذين يحنّون لزمن البعث، على الرغم من إذلاله لهم!
الأمر هنا مركّب، غير أنّ الذين عاشوا المعاناة لايمكن فرض التعقيدات للإجابة عن السؤال بخصوص موقفهم المؤيد لذلك النظام الذي احتقرهم وأذلهم واستخدم معهم سياسة (التجويع والإشباع) وهذه السياسة تجرّد الانسان من آدميته وتحوله الى كائن يقع وسطا بين الانسان والحيوان، فلا هم له سوى ضمان قوت شهره او يومه الذي يسد رمقه!.. هذه الفئة، تمثل السواد الأعظم من القائلين بأفضلية زمن الديكتاتورية على زمن الحرية.
مقارنة بين زمنين..!
في الحكايات الشعبية، ترتقي الشعوب بماضيها الى مصاف العظمة. في العراق مثلا، يقال أن العراقي كان معززا وكرما ومهابا بين الدول. وهذه كذبة قبيحة، يكتشفها كل من عاش ذلك الماضي. فالعراقي كان مستخدما في الأردن وبعض البلدان القليلة التي كانت تستقله، كخادم طالما تسلّم أجره كلمات بلهجة أردنية صريحة (يعطيك العافية يَ زلمة). في الداخل كان ينقسم الشعب الى (تكارتة) يمثلون طبقة السادة وهم على درجات، ومستخدمين عندهم كعمال وأجراء، وكانت السلطة تُمارس وفق (لكنة) اللسان!.
على مستوى امتهان الانسان، فقد أعدم الناس، ودفنوا بمقابر جماعية، وقطعت الالسن والآذان والأيدي، وكل ذلك موثق بالصوت والصورة. قد يحتج البعض بالقول ان هذا الزمن لا يختلف، فهناك داعش وإرهاب ومليشيات وعصابات، ونرد على هذا القول بأنّ داعش والإرهاب والعصابات كلها فئات لا تمثل الدولة، بل تعمل على اسقاطها، بينما في العهد السابق كانت الدولة هي من تُمارس الإرهاب والقتل والخطف والنهب.
انهيارات كثيرة، منها الدينار العراقي الذي فقد أي قيمة تذكر، والجيش العراقي الذي انتهى وانهار في احداث عام 1991.
في السابق كان الرئيس هو القائد، والحزب هو الذي يقود الدولة بكل مفاصلها من دون استثناء. وهذا الحزب أيضا مقسم طائفيا الى قيادات تنتمي الى طائفة معينة، وأدوات قمعية تنتمي لطائفة أخرى وتستلم الأوامر من القيادات.
لم يكن للعراقي في الزمن السابق ان ينتظر غير الحصة التموينية، واقتصاديا فكانت الأسواق عامرة ببيع اثاث المنازل وغيرها من أمور الانحطاط والتردي.
ومن الناحية السياسية، فلم يكن يحلم العراقي البسيط سوى بالانتظار، اما عدي او قصي او من يأتي بعدهما. واليوم، للإنسان الحق في كل شيء، وهذا نابع من حرية اكتسبها العراقي بطريقة او أخرى، ولكنه بالنتيجة يقول ويفعل ويسافر. وبالتالي لا تصح المقارنة بين نظامين؛ احدهما يضيّق على الحريات لدرجة الكبت القاتل، والآخر يبيحها لدرجة كبيرة قد تصل الى الفوضى، ولكن الأساس التنظيري والفكري يذهب الى تأييد الحرية على سواها، فحيثما وجدت هي افضل بغض النظر عن باقي الظروف، لأنها ستنتج العدالة في يوم ما.
ولكي نختصر المقارنة نقول: من الإجحاف ان نقارن، فذاك زمن انتهكت به سيادة الانسان حتى على نفسه، وهذا زمن لا يستطيع به اكبر انسان ان يفرض رأيه او طريقة عيشه على احد.. ذاك من (الإله) الذي نجده في كل مكان، وهذا زمن حر لا سيادة فيه لأحد على احد.
لماذا يحنّون؟!
لا يمكن أن تكون الذاكرة الجمعية “مثقوبة” كما يقال، ولكن هناك شيء ابعد من
هذا.
معاناة الناس لم تخلق أجيالاً سوية، ويبدو أنّ الإصابات النفسية ولّدت أمراضا وعقدا، ابرزها “متلازمة استوكهولم”، ذلك المرض الذي يجعل الضحية يتعاطف مع جلاده، وهذه لها مصاديق تاريخية، منها مناداة بعض اليهود بالضد من اليهود بعد اضطهادهم من قبل ألمانيا النازية، فعلى الرغم من كونهم ضحايا النازية، غير أنهم جلدوا ذواتهم ومكنوا جلادهم منهم!
ولعل هذا ما يفسر حنين بعض الشرائح الاجتماعية المضطهدة بشكل او بآخر، الى زمن النظام الديكتاتوري البائد. وهذه الظاهرة الخطيرة، بحاجة الى علاجات حقيقية تبدأ بالتنمية الثقافية وتنوير الوعي الجمعي، فضلاً عن استخدام الوسائل النفسية لمعالجة بعض الحالات وإزالة العقد المستعصية التي تتحكم بها.