النزعة التدميريَّة العراقيَّة

آراء 2019/04/15
...

عقيل حبيب
 

هل يمرض المجتمع؟ تقرُّ العلوم الانسانية كافة (ومن أهمها علم الاجتماع والانثربولوجيا وعلم النفس، والتفرّعات الناتجة من تمازج تلك العلوم ايضا مثل علم النفس الاجتماعي، او الأنثروبولجيا النفسية وغيرها) بأنّ الجماعات والمجتمعات يمكن أن تصاب بعدد من الأمراض وقد توصلت تلك العلوم الى بعضها وما يزال البعض الآخر غير معروف، وغالبا ما لا تعي تلك المجتمعات اصابتها تلك، حالها حال الفرد. ولقد شخّص علم الاجتماع النفسي والانثربولوجيا النفسية حزمة من تلك الأمراض تحت مسمّى الأمراض النفساجتماعية. لقد ساعد في اعمام هذا التوجه عدد من علماء الاجتماع انفسهم، فمنذ ان أصَّلَ دوركهايم لمفهوم المجتمع من خلال رسم حدوده (الشخصية) فبدأت تظهر رؤية أن المجتمع اكثر من كونه تجمع لعدد من الأفراد، بل صار له حقيقته وتصوراته وعاداته وتقاليده واخلاقه ومثله ومخياله، وهو يفكر على نحو مختلف تماما عما يفعله افراده، اللهم إلّا لو كانوا مجتمعين. لهذا فقد رأى دوركهايم ان اضطرابات سيكولوجية يمكن أن تصيب المجتمع إذا ما لم تنجح عمليات التفاعل، فالفرد الذي لا يشعر بانتمائه الى ارض اجتماعية خصبة يمكن ان يكون هو السبب وراء الكثير من حدوث الانحرافات العامة والاضطرابات الاجتماعية.
فروم في كتابه (التحليل النفسي والدين) يقول من الشائع جدا وتحت تأثير الأيديولوجية أو الفكر العقائدي ان يصاب مجتمع ما بعصاب جماعي أو بمرض نفسي من دون ان يشعر أفراده، بل بالعكس يعيشون في ظل مشاعر طبيعية وقد يخوض هذا المجتمع حربا مقدسة ضد من يقول (بمرضه)، رغم وضوح انحرافه عن المعايير العامة للسلوك الانساني الاخلاقي. 
اجتماع ملايين البشر على فكرة لا يعني صحتها، فمثلا خلال قرون خلت كان اعتقاد البشر كلهم بأنّ الأرض مسطحة والقول بكرويتها يؤدي بقائله الى الموت، كذلك يمارس الآلاف بل الملايين طقوسا دينية هستيرية (يمكن قياس مستوى هستيريتها حتى من خلال المعايير النفسية الاكلينيكية). تاريخيا لعبت بعض الأديان التي يمكن وصفها بالتسلطية من أجل أن ينفتح الوجه السماوي الماورائي على الوجه الأرضي البشع ممثلا بطغمة حاكمة باسم الدين تعمل على ان تنمي في الإنسان روح الإذعان لجبروتها كبديل للقوة الإلهيّة، فهي تسلب من تلك القوة الكثير من الصفات كالمقدّسة والكمال لتمنحها لصالح الحزب أو التنظيم أو القائد أو الدولة. لقد اصبحت هذه الاشكال آلهة العصر الحديث الذي يعبده الجميع ويقدم له الاضحيات. 
كيف يمكن وصف هذا الولاء الاذعاني من قبل الفرد لتلك الاشكال بأنّه سوي نفسيا واجتماعيا (مهما بلغت درجة نجاحه السياسي)؟ وفق أية معايير يمكن التبرير لمجتمع ما منح المشاعر الدينية لعدد من الأفراد ليمارسوا تسلطهم وساديتهم وشهوتهم في قتل الناس وحلمهم النكروفيلي في إماتة العالم وإبادته؟ أم كيف نجد مبررا اخلاقيا لتلك الجماهير الغفيرة التي تتبعهم في مشروع الموت هذا؟ لقد ظهرت الكثير من هذه الحالات في العراق إبان حرب الثمانينيات خاصة. 
يشير فروم في كتابه (تشريح النزعة التدميرية) الى ان الشعار الكتائبي للحزب الفاشي في أسبانيا (فليحيا الموت) على انه شعار يشكل تهديدا من أن يصبح المبدأ الخفي للمجتمع، ولكم تذكرنا مثل تلك الشعارات بآلاف من الابيات الشعرية التي يضج بها شعرنا الشعبي العراقي وهي تتغزل بالموت مرة صراحة (لا مجال لذكر نماذج منها في هذه المقالة) ومرات تحت مسميات كالرجولة والثأر والعشيرة العزوة والأخوة و...، والتي تحول البعض منها الى اغاني لاقت نسبة مشاهدة عالية في الآونة الاخيرة. 
يقول فروم ان كتابه (تشريح النزعة التدميرية) يلقي الضوء على طبيعة هذه العواطف القائمة على اشتهاء الموتى، مضاف اليها الظروف الاجتماعية التي ترعى مثل هذه العواطف، ولكنه لم ينتبه الى أن هناك مخيالا اجتماعيا مخصصا لنزعة التدمير هذه يضم العديد من الاشكال التراثية العربية والشعبية من قصص وحكايات واشعار، ويضم الأهواء والاستيهامات والفنتازيات التي ترسم صورة جميلة للموت. مع هذا يجب ان نحذر من التفسير المتعجّل لكل سلوك تشم منه رائحة التدمير على انه من نتاج عاطفة التدمير أو غريزتها. يقول فروم يجب الحذر الشديد في اطلاق صفة التدميرية على التجارب والسلوكيات التي تفضي الى اعمال تدميرية وعدوان ضارٍ، وذلك لأنّ دوافعها لا تمتلك عاطفة للتدمير. فكثير من طقوس الدينية القديمة (كهنة الأزتيك يقدمون قلوب الضحايا، طقوس باخوس وطقوس ديونيسوس، طقوس هنود الهاماستا، اراقة دم الحيوان المذبوح في القداس اليهودي. ويمكن أن نضيف طقس الأضاحي الجماعي اثناء تأدية المسلمين شعيرة الحج) وبما ان هذه الطقوس جميعها تشبه حمام دم (شهوة الدم) إلا أننا لا يمكن عدها ضمن نزعة حب التدمير، فمظاهر الأفعال لا تكفي للحكم عليها من دون النظر في دوافعها. حتى عمليات قتل الاشخاص إذا لم تكن وراءها لذة دفينة في إراقة الدم (وهي لذة مختلفة عن لذة القتل) فإن هذا يجعلها اعمالا لا توصف بالتدميرية.
تلك الطقوس الدمائية الأضحوية قد تكون بالعكس فهي - بحسب فروم - تتضمن قدرا من التأكيد لقوة الحياة والتضامن الأخوي الديني، رغم تعبيرها عن مظاهر تدميرية عديدة، فاراقة الدماء في هذه الطقوس بالنسبة للإنسان الحديث تعبر بشكل جلي عن التدميرية، ولكن النظر في الطبقات العميقة الغائرة سيكشف عن دوافعها الدينية المتمثلة في تكريس قداسة الإله.
اما التنظيمات الارهابية فلم تبذل أدنى جهد لإخفاء رغبتها في اشتهاء العالم ميتا. ان مبادئ مثل (بيعة الموت) (الانغماس حتى الموت) (نحن نحب الموت بقدر ما أنتم تحبون الحياة) حققت حضورا في العراق بعد 2014 وهي احد أهم المبادئ التي آمن بها الفكر الجهادي، وهي كما نرى لا تهدف كلها الى التقرّب الى الله بقدر ما تكشف عن نزعة تدميرية متخفية في بعض المبادئ والشعارات الدينية. فلو كانت هذه الشعارات والمبادئ لا تخفي بداخلها نزعة تدميرية مقنعة لتوقفت عند حد ابعاد عدوها حتى لو كان بواسطة العنف والقتل، ولكنها تعبر من حدود الموت الى حدود الرغبة في الموت. تلك التنظيمات واقعة في اشتهاء أو هوى الموت، انها تحبه سواء كان قد حقق لها اهدافها أم لم يحققها.