الفلسفة المعاصرة.. الجذور والثمار

ثقافة 2019/04/15
...

نصير فليح
 

من تتاح له فرصة الإطلاع الكافي على ما يجري في عالم الفكر والفلسفة المعاصرة، يستطيع ملاحظة أن المؤثرات الأبرز التي يمكن مشاهدة تكرارها وتواترها لدى عدد واسع من أبرز الفلاسفة والمفكرين المعاصرين في الفلسفة القاريّة والنظرية النقدية critical theory، تلك التي تأتي من هيغل، ماركس، هايدغر، لاكان، فوكو، ودريدا. وقد وضعنا تسلسل هذه الاسماء، التي يعرفها معظم القراء العرب من المعنيين بالفكر والفلسفة، على أساس زمني تصاعدي من الأقدم الى الأحدث.
التأثر والتأثير
ولا يعني هذا بحال من الاحوال أن هؤلاء هم الفلاسفة والمفكرون الوحيدون المؤثرون، فلا يزال حضور افلاطون، ارسطو، ديكارت، سبينوزا، لايبنتز، كانْت، كيركجارد، شوبنهاور، نيتشه، هوسرل، غرامشي، فتجنشتاين، سارتر، التوسير، تشومسكي، وغيرهم، قويا 
ومحسوسا.
كما ان الفلاسفة والمفكرين المعاصرين الأبرز انفسهم، من امثال باديو، جيجك، لاتور، هاراوي، باومان، فيريليو، لاكلاو، بتلر، هومي بابا، سبايفاك، وغيرهم اصبحوا هم انفسهم مصادر تأثير في الفكر العالمي المعاصر، لا متأثرين فقط. لا سيما ان اعمال الكثير منهم بدأت تسجل حضورها الفعال في المشهد الفكري العالمي منذ عقود، وبالتالي فإن تحول افكارهم وتجديداتهم واضافاتهم الفكرية أخذ ولا يزال منحى تصاعديا متناميا، فاتحا افقا لأجيال جديدة من  المفكرين والفلاسفة والباحثين، مع استمرار والتمعن والبحث في نتاجهم وافكارهم.
 
الجذور الأهم:
ولكن بالعودة الى الفلاسفة والمفكرين الستة الذين ذكرناهم في مستهل هذه المقالة، نلاحظ ان غنى الرؤية الهيغلية الفلسفية والتطور الجدلي للفكر عبر التاريخ لا يزال منطلقا فاعلا في مقاربة حركة الفكر. وكل نشوء لفكرة جديدة لا يلبث ان يكشف عن جوانب النقص والنقد التي تتكشف بمرور الزمان، ليتفتح من ذلك التوتر الفكري فكرا جديدا، يمسي بدوره مادة لنقد جديد. فضلا عن غزارة وعمق النتاج الهيغلي في مجالات متعددة، مما يجعله منبعا لاستلهامات شتى.
أما بالنسبة للماركسية، ورغم التغيرات الكبيرة التي حدثت في العالم وفي الفكر الماركسي، فإن الرؤية الماركسية لا تزال مهمة وحاضرة بقوة، وإنْ كانت ليست بالضرورة مستندة الى كل ما تصوره ماركس وانجلز عن المادية التاريخية والجدلية، وصراع الطبقات، وما يفضي اليه من حتمية انتصار البروليتاريا. والحقيقة ان واحدة من سمات الفكر الماركسي التي تكثف فعاليته، هي انه فكر مرتبط بالسياسة بقوة، وماركس نفسه كان رأى ما فعله الفلاسفة في الأغلب هو السعي لتفسير العالم، بينما المهمة باتت تكمن في تغييره. ومع ما في هذا التصور من مآخذ، ذلك ان “تفسير العالم” عملية دائبة مستمرة ولا يمكن الزعم انها حُسمت، فإن حقيقة كون الماركسية فلسفة سياسية عملية، يلعب دورا مهما في فاعليتها المعاصرة كما في الماضي.
لعل التأثير الأهم من جهة هايدغر يكمن في ربطه للفلسفة بوجود الانسان المباشر، وما يترتب على ذلك من مقاربة مختلفة لشتى جوانب النظرة للعالم والانسان. فكينونة الانسان Dasein، التي أهملها الفكر الميتافيزيقي الغربي لقرون طويلة – كما يرى هايدغر – تمسي النواة المتفاعلة، المتناهية زمانيا، لتاسيس علاقته بكل ما حوله، ولا تعود الظواهر والأشياء موضوعة على الطاولة بانتظار التفكر والتمعن البشريين، بل تظهر وتستكشف في سياق الخبرة المميزة لكينونة الانسان نفسها، أي بتعبير آخر، المقاربة التأويلية للفينومينولوجيا. ومع استمرار حركة العلم والتكنولوجيا، فان ما يتصل بنقد هايدغر لانفصال الانسان في العالم المعاصر عن وجوده او كينونته الاصيلة authentic being يمثل مقاربة تثبت حضورها المهم.
علاقة انتاج المعرفة بالمحددات التاريخية لعصر معين، وضوابط وموجهات القوة والسلطة، ركن أساسي من تأثيرات فوكو التي لما تزل فاعلة بقوة. ففي الاستقصاء الجينالوجي للظواهر – كالجنسانية، الجنون، السجون – رؤية من نوع مختلف تماما لتاريخ المعرفة. فلا يعود هذا التاريخ عملية تراكم تدريجي تقليدي، بل يتوجب البحث فيه عن نقاط الانقطاع أيضاً، ومعرفة الشروط الاجتماعية والسياسية لعصر معين التي تم انتاج وتوليد المعرفة فيها. وبالطبع لكل هذا علاقة وثيقة بما يجري في عالمنا المعاصر، واتجاهات المعرفة والعلم والتقدم التقني أيضا.
أما بالنسبة لجاك لاكان، ورغم ان تخصصه الأساس في علم النفس، فانه وسع الى حد كبير من نطاق بحثه ليتداخل مع مجالات شتى في الفلسفة ومباحث الاجتماع، والفكري النظري عموما. و”الاثافي” الثلاث التي يستند اليها فكره، وهي مفاهيم “الخيالي، و”الرمزي” و”الواقعي” اثبتت انها مقاربة خصبة جدا، وصالحة للإغناء لا في مجال علم النفس فقط، بل في عدد من المباحث الرئيسة الاخرى. الى الحد الذي جعل من فيلسوف شهير معاصر هو ألان باديو يقول عنه انه بمثابة “هيغلنا”، أي ان جيلاً كاملاً من المفكرين والفلاسفة خرج من مظلة الفكر اللاكاني كما تولد جيل الهيغليين الشبان من
 هيغل. 
الانعطافة الجذرية التي يمثلها فكر دريدا (أو منهجه، فلسفته) التي وجهت ضربة مركزية لطريقة التفكّر النظري والفلسفي التي سبقته، تثبت هي ايضا أنها على درجة عالية من الخصوبة والغنى. وتطبيقاتها في طيف واسع من الدراسات الانسانية المعاصرة، مؤشر قاطع على هذه الحيوية الجوهرية، التي ما فتأت تتفاعل وتتشكل بتجسدات شتى، سواء اتفق المرء او اختلف مع ما تتهم فلسفة دريدا من نزوع الى “الريبية” وتعويم المعنى. فمراجعات الأنساق المختلفة للفكر، وهي كثيرة جدا ومتنوعة، تصبح على طاولة التفكيك عملية اكثر منهجية وفعالية بكثير، على طريق أكثر وضوحا للفهم والتأويل والمراجعة الدائبة. 
 
الخضرة الدائمة:
ويمكن ان نشير ختاما الى ان استمرار هذه التأثيرات من هذه المنابع المتنوعة يؤكد غنى وحركية الفكر النظري العالمي، وانه بعيد عن التصورات الأحادية التي لا تزال عالقة في أذهان الكثير من قراء ومثقفي العالم العربي، التي قد تذهب الى ان هذا المفكر او ذاك، او هذا التيار أو ذاك، هو القول الفصل النهائي الذي صار حاسما، الى درجة أنْ لم يعد ما بعده مهما كثيرا، او ان ما بعده ليس سوى تنويعات اضافية لا أكثر.