نظرةٌ استعاديَّة

ثقافة 2019/04/15
...

د. نادية هناوي
 
 
استوعبت القصة القصيرة الميراث السردي من ألف ليلة وليلة إلى المقامات، لكنها لم تتقوقع فيه؛ بل أضافت إليه معطيات فنية بالتفاعل مع قصص آداب الأمم الأخرى كالأدب التركي ولا سيما قصص نامق كمال وتأثراً بدرجة مناسبة من الوعي ببعض القصص الروسية وبعض القصص الكلاسيكية الغربية وعلى وجه الخصوص القصة الانكليزية واتجاهاتها التاريخية والواقعية، وهو ما تمثله كتابات عطاء أمين في مطلع عشرينيات القرن الماضي متجهاً بالميراث السردي للمقامة اتجاهاً جديداً يندرج متجانساً مع القص الحديث ومرتفعاً في الآن نفسه بالمقالة الاجتماعية لتغدو قصة قصيرة.
وسيكمل هذا المشوار محمود أحمد السيد ليضع القصة القصيرة على طريق فنيتها الحديثة منتهجة النهج الواقعي ومعتمدة التحبيك الذي يمحور الأحداث حول نسيج واحد قريب الشبه بالمبنى الحكائي، ومن هنا عد محمود أحمد السيد رائد القصة القصيرة العراقية.
وإذا تقدمنا إلى الثلاثينيات؛ فإننا سنجد أن الخط السردي ظل دائراً في حلبة الواقعية التقليدية، لكن باختلاف بسيط يتمثل في ظهور الكتابة الروائية التي لم تستطع أن تنافس القصة القصيرة على الساحة السرديَّة.
وما كان للقصة القصيرة أن تحوز على الاهتمام أكثر من الرواية، إلا بسبب تماشيها مع عالم الصحافة من ناحية قصر مادتها وسرعة انجاز كتابتها ومقدرتها على مواكبة الأحداث المستجدة والراهنة. ومن هنا لم تتمكن الرواية أن تجاري المد القصصي القصير، الذي رافقته منذ بواكيره صحوة سردية خاصة، كانت قد تجلت بوضوح في الثلاثينيات متجهة به نحو الظهور بقوة، مشيعة التجديد في الكتابة السردية في الأربعينيات، وموطدة له مسارات فنية وموسعة ميادين تمثيله، وهو ما تجسد على أيدي القصاصين (عبد الحق فاضل ويوسف متي وعبد الوهاب أمين وعبد المجيد لطفي وأنور شاؤول وجعفر الخليلي وذي النون أيوب وسليمان الصائغ وشالوم درويش وشوقي خلف الداوودي).
وبهذا هيأت القصة القصيرة الثلاثينية، الأرضية الثقافية التي عليها سيحتشد الفعل السردي بشكل أعمق لمثيلتها الأربعينية، كي تغادر منطقة الواقعية التقليدية إلى واقعيات أخر على أيدي القصاصين (عبد الرزاق الشيخ علي وعبد الله نيازي ومهدي عيسى الصقر).
 
اللهجة العراقيَّة
بيد أنَّ واحداً من قصاصي الأربعينيات وهو عبد الملك نوري كان قد دشن أسلوبا فنيا لتجريب تيار جديد سيعمل على ادخال القصة القصيرة في منطقة ما قبل الكلام، مستعملا أسس التداعي الحر في علم النفس.
وبسبب (تيار الوعي) دخلت اللهجة العراقية إلى القصة القصيرة وذلك باستعمال الحوار العامي، وصار للزمن حركته المغايرة والحرة، كما تجلت معطيات التحليل النفسي من نكوص وإسقاط ونرجسية واكتئاب وعصاب داخل السرد. علما ان الحوار كان يكتب بالفصحى قبل تدشين تيار الوعي في القصة القصيرة.
وغدت الشخصية في القصة متأزمة داخليا أكثر منها خارجياً، وصار بإمكان السارد تتبع حركة الشعور في وعي الشخصية من جهة؛ وتداعيات اللاشعور عندها من جهة أخرى، وبالشكل الذي يحقق مزيداً من الصحوة السرديَّة بكل ما تعنيه الصحوة من اليقظة والإدراك والتمعن والاستحكام على المستوى النصي، الى جانب ما تقتضيه وبدرجة كبيرة من الاحتكام أو الاقتران بالقلق على المستوى التأليفي أو الإنتاجي.
ولعلَّ من مسوغات توظيف عبد الملك نوري لتيار الوعي في القصة القصيرة ما انماز به هذا التيار نفسه من عوامل تسمح للسارد بالدخول إلى ذهن الشخصية وتنظم العمل في الكشف عن خباياها من الداخل باعتماد العوامل المساعدة وهي “ أولا الذاكرة التي هي أساسه وثانيا الحواس التي تقوده وثالثا الخيال الذي يحدد طواعيته” تيار الوعي في الرواية الحديثة/ 65 .
وهذا ما توضح جلياً عند قاص آخر ظهر مطلع الخمسينيات وهو غائب طعمة فرمان الذي استلهم تجليات الواقعية التقليدية، لكنه عرف كيف يطعِّمها بتيار الوعي، ليكون واحدا من القصاصين الموصوفين بالصحوة السردية، متفردا في تحقيق بعض من التمازج التضادي بين سمتي الصحو والقلق التي ستنعكس بدورها على كتّاب القصة القصيرة العراقية فتكون سببا مهما في تميزها فنياً وتاريخياً، متقدمة على نظيراتها العربيات.
وكان استيعاب فؤاد التكرلي لتيار الوعي في هذه المرحلة قد فرض عليه تناول شخصيات قلقة هي في الغالب نسوية، وإذ أعطى للمونولوجات الداخلية اهتماما كبيرا، فلأنها تمنح السارد مساحات من التصوير الانطباعي للوعي وبمستويات نفسية متعددة، وكثيرا ما كانت تأتي مونولوجاته بالعامية بينما تحافظ الحوارات الخارجية على استعمال اللغة الفصيحة، معطيا للقصة سمة واقعية هي أقرب إلى السيكولوجية وأول قصة نشرها كانت بعنوان (همس مبهم) في مجلة الأديب اللبنانية عام 1951 .
 
التداعي الحر والمعبر
وكان للقاص مهدي عيسى الصقر خطه الواقعي الخاص في استلهام تيار الوعي معتمدا التداعي الحر في مجموعتيه القصصيتين (مجرمون طيبون 1954) و(غضب المدينة 1960.(
وأغلب قصصه القصيرة منشورة في مجلات الأديب والآداب، وفي قصصه تظهر أهمية التداعي في تحريك الشخصية ذهنيا بمجرى واحد فيه المونولوجات الداخلية تأتي متداخلة بالحوارات الحرة غير المباشرة والحوارات الخارجية، وسبب التداخل أنها تسرد باللهجة العامية، ولا يميز بينهما سوى استعمال الأقواس الصغيرة التي تشير إلى عمليات التداعي الحر في الذاكرة والحواس والخيال.
ومعلوم أن التداعي الحر هو أهم أساس من أسس تيار الوعي، أهتم مهدي عيسى الصقر بتوظيفه بينما أهتم القاص محمد روزنامجي بأساس فني آخر من أسس هذا التيار وهو الإفادة من المستحدثات السينمائية وتحديدا المنتجة الزمانية والمكانية عبر توظيف الوصف الخارجي بعين الكاميرا وبالشكل الذي يساعد في تحقيق امتداد لا نهائي في اللحظة، مع حرية التحرك في الزمن، مزجا بين الماضي والحاضر وانتقالاً إلى المستقبل، مضيفاً بذلك للقصة القصيرة الخمسينية سمتين تجريبيتين :
الأولى/ أنه اتجه بها اتجاهاً وجودياً على المستوى الفكري.
الثانية/ أنه طور التوظيف الفني لتيار الوعي متجها به صوب التقطيع والمنتجة، مزاوجا بين الحياة الداخلية والحياة الخارجية. ليكون بذلك رائد التجريب السيمي في القصة القصيرة، سواء تلك التي نشرها في مجلات عربية كالأديب والآداب والكاتب العربي أو التي نشرها في مجلات وصحف محلية.
وأسهمت القاصة سافرة جميل حافظ في التدشين لمستوى من مستويات تيار الوعي يتمثل في التداعي المعبر عن وجهة النظر الطفولية إزاء العالم المادي الخارجي، متعاملة معه من منطلق التخييل الحلمي، كنوع جديد من السرديات سميناها ( سرديات الطفولة ) وهو ما مثلته مجموعتها القصصية القصيرة ( دمى وأطفال) الصادرة عام 1954، مهتمة بالطفولة فاعلا سرديا ومرتفعة بها من التابعية إلى القطبية التي بها تستطيع الشخصية الطفولية التحكم في السرد، مسيِّرة له على وفق مقتضيات حالها وتركيب نفسيتها.
هكذا استوعب القاص العراقي في الخمسينيات إمكانيات البناء القصصي وامتلك الأدوات التي بها طوّع تلك الامكانيات لصالحه، معبرا عن أفكاره؛ مستفيقا بطريقة واعية على خصائص تكنيكية وموضوعية، عارفا كيف يجري براهينها بالشكل الذي لا يتملص فيه من الموروث، وفي الآن نفسه يتمكن من التفاعل مع القص الغربي، متواصلاً مع جديده ومبتكره. وجدير بالذكر أنَّ عدد القصاصين الذين اندرجوا في قائمة القصة الخمسينية كانوا قد ازدادوا؛ قياسا إلى المرحلتين السابقتين ومن هؤلاء القصاصين (نزار عباس وغانم الدباغ ومحمود عبد الوهاب وموفق خضر ويوسف يعقوب حداد ونزار سليم وغازي العبادي).