{أمواج} عبد الله إبراهيم

ثقافة 2023/04/18
...

    كاظم جماسي

كما حائك محترف، ينسج د. عبد الله إبراهيم خيوط سجادة  رحلته السيرية، والتي ينحصر مداها الزمني بين مفتتح ستينيات القرن المنصرم، وحتى ما بعد سنة تغيير النظام في العراق بفعل الغزو الاميريكي في 2003، ومن بعده بأكثر من عشر سنوات.

ما يتذكره، صاحب "موسوعة السرد العربي" من عهد طفولته يتمه بعد موت أبيه، وشعوره المبكر بمسؤوليته عن نفسه، على الرغم من وجود أمه، الذي لم يستمر طويلا إذ غادرته، ولم يزل في الثالثة عشرة من عمره، بعد مكابدة قاسية مع سرطان مميت "دفعني موتها إلى مواجهة مصيري، فقد تدربت عليه بجوارها، وصبرت بعدها أمام الحقيقة، ولكن في أعمق نقطة، نقطة الارتياب والحنين، كنت أعرف أنها مضت، وتركتني رضيعا ما بلغت مدى الفطام، كما قال المعري عن فطام أمه."ص25، بينما ظل الصبي في كنف أخيه الأكبر المقيم في كركوك المدينة، وقد شهدت إقامته تنقلات عدة بين مركزها وحيث مزارع وبيت العائلة.

المدينة، مبانيها وشوارعها وتمدن ساكنيها وتنوع أماكن لهوها، لا سيما دور السينما، التي أمضى الصبي جل أوقات لهوه فيها، بحب بلغ حد الوله لقصصها وأبطالها خصوصا الممثلات، إذ يصف ببراعة الصدمة التي اعترت روحه وجسده، ولأول مرة حين شاهد على شاشتها أول جسد أنثوي [ص52]، بينما شهدت إقامته في منزل العائلة في القرية الواقعة على أطراف كركوك، عديد التجارب العاطفية التي لم يك هو فيها مبادرا، كما إنها ظلت محدودة.[ص42 ومابعدها].

عاش الكاتب سنوات طفولته وصباه وما بعدهما، بعيدا عن أنياب العوز والفاقة، مزارع العائلة المترامية، التي تستخدم عمالا وعاملات من كركوك من مختلف القوميات، وفرت له كما لأفراد عائلته ما فوق حدود كفايتهم، فضلا عن منزل فاره بنحو ما، أتاح له دفئه وسعته نوعا من طمأنينة العيش ورغده.

تفوق في دراسته الابتدائية "وبقيت متفوقا طوال السنوات الست دون أن يتخطاني أحد"ص36، كما هو شأنه في سنوات دراسته اللاحقة.. وراح فضول الصبي يدفع به متصاعدا بدفق سريع نحو عوالم كانت مجهولة بالنسبة له منذ حين، وأخذت الأسئلة تحتشد بنحو كثيف في فضائه العقلي والروحي، وقد عرف، ولو في ما بعد، أن "تنازعا عميقا ظل يشطرني جراء سعيي للتكيف مع العالم، فلم أنتم بصورة قاطعة لا إلى ذاتي برغباتها المفعمة بالطموح والفوضى، ولا إلى عالم الجماعة الممتثلة لمنظومة من القيم، والعقائد، والعادات." ص11

بدأت أول ملامح اتصال الفتى بالمكتوب من "الثقافة"، بعد اتصاله الشغوف بالمرئي منها "السينما" وهو في ثاني المتوسطة، حين طالع الفتى عمل همنغواي"الشيخ والبحر" أملا منه بكتابة رواية، ولم يهتد لذلك، ثم تابع ما يقدمه اقرانه على خشبة مسرح المدرسة، في الوقت الذي أخذ يعد نفسه للشعر فقرأ للسياب والفيتوري ومحمود درويش، ولمس لدى"الممثلين" حب الأدب عبر حواراتهم وشكل معهم "جماعة" وتعرف إلى الأدب الغربي بسهولة "وشغفت به، وأعجبت بالسريالية، التي شاع التعريف بها قبل جيلي، وفكرنا، عواد علي، وسامي البياتي، وانا، في إصدار نشرة مدرسية، واتفقنا أن تكون بعنوان ـ 555ـ أي ـ الخمسات الثلاث ـ وهو عنوان قصيدة أو بيان، يعود إلى بريتون مؤسس السريالية."

ص63، ثم غدا ممثلا في عدة مسرحيات، ضمن النشاط المدرسي، أدوار ثانوية ولم يكتب له النجاح، وهيمنت، من ثم حالة إحباط شديدة الوقع عليه، ولم يجد منقذا منها سوى الكتاب، وأي منقذ؟!

" صرت أشعر بأن تحولا ما وقع في داخلي خرب بداهتي وعفويتي، فلم أعد قرويا غريرا، ولكنني لم أصبح بعد مدينيا حصيفا، فقداأنقطعت عن حال، ولم أمد جذوري في أخرى، فكأنني أركض ذهابا وإيابا في مسار مغلق."ص67

هنا أدركت الفتى اللحظة الفاصلة، لحظة الوعي بالوجود، اللحظة التي تتمزق فيها شرنقة طمأنينة الكائن، طمأنينة يقين الأجوبة المستحصلة من محيطه الإنساني، فينقذف بلا حول ولا معين إلى سعير القلق، قلق الأسئلة "الهدامة" للمسلمات، وليس من مهرب سوى المضي قدما بحثا عن إجابات، فكان الكتاب "ونشطت في البحث عما يلتصق بفرديتي، ويغذيها، ويقويها، ويضفي عليها معنى، فوجدت ذلك في الكتاب"ص 67

ومثلما تفيض أية آنية حين تمتلئ، فقد كتب صاحبنا عشرات القصائد، بعد أن أبحر بقراءة اليوت وبودلير، بعد أن مرّ بالرومانسيين والرمزيين ولم يهضم لا وايتمان ولا إيلوار، واستقر به المقام محاكيا لصاحب "المركب السكران" شعرا ومزاجا حياتيا، ولكن "بكرِّ السنين توهمت أن جذوة رامبو انطفأت في أعماقي"ص71، ولكنها عادت كما عاصفة مدمرة، في سني دراسته الجامعية ربيع 1980وقد أيقظتها قرأته لكتاب هنري ميلر "رامبو وعصرالحشاشين" فهيمنت عليه الوجودية بكل سوداويتها وبرمها وقرفها من العيش في عالم بالغ التوحش والقسوة وشراسة العداء.

جمعت الكاتب لقاءات عدة مع جماعة كركوك وايضا مع يوسف زنكنه وجليل القيسي ومحمود جنداري وآخرين، الأمر الذي أسهم في إغناء تجربته الفكرية ووجهها نحو اهتمامات جديدة، ويعزو الفضل إلى القيسي في اكتشاف ملكته النقدية في وقت مبكر، فيما " أذكى جان دمو جمرة شغفي بالآداب الغربية، وهي محط إهتمامه دون سواها، وعنه نهلت منها ما روى ظمئي." ص86.

مضت الأعوام وعينا عبدالله الشاب ظلت مسمرة على بلوغ غاياته في النجاح بل التفوق في كلا الامتحانين، امتحان الحياة وقد كان أشبه بمشي حاف على الجمر، وامتحان الفكر وقد كان، بعد بلوغه النضج، كما قطار منطلق بأسرع طاقته للوصول" .. وحينما أستعيد مسار حياتي أجده دأبا غير منقطع أستأثر بجل عمري، وقد مضى في صعود لا أرتداد فيه، وإليه أعزو كل شيء في حياتي الكتابية والمهنية." ص13

عديدة هي الأحلام، صغيرها وكبيرها، التي ما انفكت تتوارد في عقل الصبي والشاب والرجل، سوى أنها لا تتحول إلى شواخص إلا بعد إدخالها مختبر عقله الخاص والمتصف بالأناة ونضج البصيرة.

يعود بنا، من بعد ذلك، عبد الله إبراهيم إلى بداية تسعينيات القرن المنصرف، وكان قد عين أستاذا للسرديات في كلية التربية في الجامعة المستنصرية، ويصف القلق الذي أثقل كاهله بشأن مصيره ومصير البلاد أبان غزو الكويت، ثم كيف رست أمواج حياته، بغير ما يحسب، على شواطئ عشق عاصف "بدأ ربيع حياتي العاطفية في خريف علاقتي بالعراق. 

ظهرت ـ لمياء رافع ـ في عالمي في أوج لحظات العتمة التي تدرجت بي في السنين الأخيرة، وبلغت حالتها القصوى في الحرب وتداعياتها، فأضاءت مجددا ذلك الظلام، وأوقدت قبسا من نار في أعماقي لعشر سنوات  قادمة" ص 443.

يساق في ما بعد، إلى الخدمة العسكرية، ضابطا مجندا، وتبدأ هنا مكابدات شتى، ففضلا عن قسوة يوميات الخدمة في جيش "صدامي" محكوم بالاستلاب المطلق لأفراده، راحت هواجسه تتضخم، كفعل مقاومة داخلية لوجوده المهدد بالمحو وجها لوجه، وأخذت تتهاوى قناعة انه، بخدمته في الجيش، إنما يدافع عن الوطن، بينما يغزو صدام حسين بلدا جارا وشقيقا..   

"فكلما اشتد أوار الحرب اشتد تبرمي، عصيت ما أمرت به، واعتكفت في بيتي.

لم تكن بي رغبة في دور زائف، فقد أجبرت على القيام بتمثيل مرتبك لدور ما آمنت به يقع في الهوة الفاصلة بين الدفاع عن نظام والدفاع عن وطن.

مرت عليَّ السنوات متخيلا أنني أدافع عن وطني، ولم يكن من السهل فك الاشتباك، فقد كانت فكرة الوطن تعوم في مخيالي كأمل خالص، ومنطقة جذب لاتقاوم". ص334

بعد غياب عن البلاد ناهز  العشر سنين، وتوزعت مناماته بين الدوحة واسطنبول وعمان، قرر، جزافا ربما كلفه حياته، ان يعود إلى البلاد.

ففي الأول من آب 2003، وبلاده مستباحة بالكامل، كما بستان عاث به اللصوص وقطاع الطرق من مختلف المشارب والمذاهب، وبرعاية المحتل وحضوره، فأحالوه أرضا بلقعا، وصل النقطة الحدودية بين الاردن والعراق"ترجلت لأختم جواز سفري في مبنى شبه مخرب، فلم أجد سوى شرطي يقبع وراء نافذة محطمة الزجاج، فأشر لي ضجرا بألا تأشيرة دخول، فالبلاد مفتوحة، ولما استدرت واجهتني الجدارية الأسمنتية الضخمة لصدام حسين.. وعليها رسم يؤشر بيمناه إلى هدف غامض.. اقتربت لأتفحص أثرا حسبته أصبح من الماضي،.. فوجدت جنديا من المارينز بخوذة معدنية، يتكئ على الجدارية بكامل ظهره.

حجب صدام حسين والجندي الأمريكي عني شروق الشمس، فشكلا ظلا طويلا امتد إلى ما وراء النقطة الفاصلة بين عراقي المتخيل، والصحراء الأخرى".

ص575 .