مدرسة الدراسات الشرقيَّة.. ذروة الاستشراق البريطاني

ثقافة 2023/04/26
...

 د. فارس عزيز المدرس

يعد الاستشراق البريطاني الحديث من أوسع النشاطات المعرفية التي تناولت الشرق عامة؛ والشرق العربي على الخصوص. وصدر منذ بداية القرن العشرين عن معاهد مزودة بباحثين كبار، وبدعم معنوي ومادي، بعد أن كان دراسات يشوبُها التحامل والقصور المنهجي. وتعد مدرسة الدراسات الشرقية The School of Oriental studies  (SOAS) ذروةَ ذلك الاستشراق، وأحد مكونات جامعة لندن، تخصصت في الإنسانيات واللغات والقانون والعلوم الاجتماعية المتعلقة بآسيا والشرق الأدنى والشرق الأوسط.

وللتعريف بالمدرسة لا بدَّ مِن نظرةٍ على تاريخها، والأهداف التي دعت إلى نشوئها.

ولو تتبّعنا أسبابَ إنشاء المدرسة لرأينا أنّه على الرغم من تأسيسِ كراسي اللغة العربيَّة في جامعتي أكسفورد وكامبريدج سابقاً، فإنَّ تلك الدراسات كانت على هامشِ الحياةِ الأكاديميَّة، وبقيت في حيِّز المعرفة اللاهوتية والعلاقة الفيلولوجية بين اللغات التي عرفت بالسامية. 

سبق إنشاءَ المدرسةِ خطواتٌ كان أهمها إنشاءُ الجمعيةِ الملكية الآسيوية Royal Asiatic Society التي تأسست عام 1828.

ومع تنامي المصالح البريطانية في الشرق تشكّلت دوافع للدراسات الشرقية؛ نظراً لحاجةِ بريطانيا إلى تطوير معلوماتِها عن الشرق؛ فبدأت تنطلق الدعواتُ لإقامةِ مدرسةٍ في لندن لدراسةِ الشرق على أسس علميّة منظمة.

وفي عام 1905 عقد مؤتمرٌ في لندن أوصى بتشكيل لجنةٍ مِن وزارة الخزانة لاستقصاء إمكانية إقامةِ المدرسة؛ فتشكّلت لجنةٌ عُرفت باسم (لجنة اللورد راي)؛ للنظر في إمكانية تنظيم الدراسات الشرقية؛ نظراً لِما كانت تعانيه بريطانيا مِن تخلّفٍ في هذا المجال؛ فأصدرت اللجنةُ تقريرَها الذي نصّ على إقامة المدرسة عام 1909، وتولى اللورد كيرزن نائب الملك في الهند سابقا متطلبات بنائها.

فتحت المدرسة أبوابها عام 1917 باسم مدرسة الدراسات الشرقية، وكانت تدرس اللغات الشرقية في الكلية الجامعية وكلية الملك النواة، ثم أطلق عليها عام 1930 اسم مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، وصدرت عنها نشرية تحت مُسمّى Bulletin of the School of oriental and African Studies. 

وهي نشرية غنية بمادتها وتنوعها؛ وتضمّنت الكثيـر من بحوث كِبار الأساتيذ؛ منهم توماس آرنولد، والشيخ حسنين عبد الرازق، وتلامذته أمثال جورج مقدسي وآن لامبتون، وهاميلتون گب. 

كان لإنشاء المدرسة أسباب فصّلها العديد من الباحثين والإداريين بمَن فيهم ملك بريطانيا جورج الخامس آنذاك؛ في حفل افتتاحها، وما كتبه المشرفُ على تأسيسِ المدرسة دينس روس. 

لكن المقال الذي كتبه توماس آرنولدThomas Arnold  بعنوان: (دراسات عربية)، توضح حالَ الدراسات التي تخصّ الحضارة العربية في بريطانيا قبل تأسيس المدرسة.

والسير ثوماس آرنولد شخصية أكاديمية ذات ثقافة واسعة، وأنموذج لرسم معالم رأي الإنكليز المعتدلين في الحضارة الإسلامية وتاريخها وثقافاتها.

درس في مدرسة بلايموث، وأدّى اهتمامه بالموضوعِ الشرقيِ إلى اختياره لِمنصب مدرس للفلسفةِ في الكليَّةِ الشرقيةِ الإنكليزيةِ المحمّديةِ في عيلكره؛ التي أسّسها في الهند سيد أحمد خان؛ أحد المصلحين الذي أخذ على عاتقه إحداث انسجام بين الثقافةِ الإسلاميةِ والمناهج العلميةِ الغربيِة. 

لذلك يمثُل كلامُ آرنولد بمصداقيةٍ أهداف المدرسة وموقفها المستجدّ في الدراسات الاستشراقية.

تستحق تصوراتُ آرنولد وآراؤه عن الشرق أن تُتخذ مصدرا موضوعياً معتدلاً؛ بخلافِ كثير مِن المستشرقين المتحاملين، وسأترجم هنا نصوصاً مما كتبه في العدد الأول مِن نشريّة المدرسة؛ بيّن فيها مدى الإجحاف بحق الدراسات العربية والإسلامية في بريطانيا آنذاك، وعزا ذلك الإجحاف إلى التأثيرات التي مارسها رجال الدين... ومع أن بعض الجامعات البريطانية قامت بإنجاز بحوث لتبييض صورتها؛ لكن الكثير من الكتابات الإنكليزية التي تناولت الإسلام ظلّت متعصبةً ومتحاملةً؛ بل فيها الكثير مِن الجهل بالإسلام وتراث العرب. 

ثمّ أورد آرنولد شواهدَ من الكتب المنهجية التي تناولت الإسلام وسيرة الرسول محمد (r)، وحديثا شاملا عن حضارة العالم الإسلامي، مدللا على حجم التعسف الذي وقع على العرب والمسلمين جراء تلك المناهج، إذ بقي الإسلام - حتى في المراجع الكبرى التي استعرضت ديانات العالم - الديانة الوحيدة التي جرى تناولها بقسوة وتعصب"، وهذه الكلامُ ألقاه آرنولد على ملأ من الباحثين الذي استكتبتهم في نشرياتها Bulletin of the School. 

رأى آرنولد: أن أحد أهداف المدرسة تدريب رجال الأعمال الذين يعملون بين المسلمين على نحو يمكنهم من تقييم روائع الحضارة الإسلامية، والتعامل مع مشكلات الشرق العربي بتعاطف وذكاء، فلو كان لدى الجيلين السابقين من الإنكليز الذين عاشوا في العالم الإسلامي ما يكفي من المعرفة عن ماضي الشعوب الإسلامية التي حكموها؛ لتمكنوا من تفادي الكثير من المشكلات التي تعرضوا لها. 

ويقول: إن المثل الإسلامية ينبغي أن تحظى بالرعاية والاحترام، ولكن معرفتنا بها لا يمكن أن تتم إلا من عِبر دراسة اللغة العربية؛ فمن خلالِها يصبح بمقدورنا أن نقيم الحضارة الإسلامية، وأن نلمس قلوب شعوبها.

ولو كان هناك وعي بالإرث الحضاري للأدب العربي ولغته؛ لكان من شأن ذلك أن يمكن رجال الإدارة البريطانيين من إدراك أنهم يتعاملون مع ورثة حضارة عظيمة؛ لها أفكارها الخاصة في القانون والأخلاق والنظام الاجتماعي.

لقد جرى تشويه صورة المثل الإسلامية في الأحاديث والتعاملات اليومية. 

 وأضاف آرنولد: وفي الجانب الفكري هنالك رغبة متقدة للعلم في مجتمعنا؛ تحدونا إلى ولوج حقول المعرفة.

وفي المجال الأخلاقي ينبغي أنْ يكون لدينا أحساس قوي بالمسؤولية... وبأن المراقبة الإلهية حاضرة حتى عند أداء أبسط الأعمال اليومية؛ مما يضفي كرامة على الحياة الإنسانية، وقد وصف دوفتي ذلك بالقول: “إن الدين استحضار خشية الله واللطف بالآخرين. 

والمؤمنون هم من يواجهون ظروف الدهر بالتسليم بقضاء الله؛ عن طيب خاطر؛ وهذا ليس إلا جزء من المثل التي يحملها المسلمون”؛ ومن أجل توسيع معارفكم وإدراككم غامرت في تشويقكم إلى دراسة العربية. انتهى. 

ترجمت هذا النص لـ آرنولد للكشف عن العوامل النفسية والأخلاقية التي آثرت في توجهاته. وهذه الأخلاق العمَلية هي التي ستلازم تلميذَه هاميلتون گب طوال رحلته العلمية، ودعتْه لأنْ يكتبَ كتابَه الشهير (حضارة الإسلام). والنص آنف الذكر مِن خطاب آرنولد يكشف عن دوافع استحداث المدرسة، وتبيان ضرورة التجديد في المناهج البريطانية، والتعامل مع الآخر شرقي معاملة لائقة.

تعرّضت المدرسةُ خلال سنوات الحرب للكثير مِن الخسائر؛ إلا أنها ظلّت محافظةً على رصانتها، على الرغم من ضعف التمويلِ الذي عانت منه في سنوات الحرب. 

وتعدّ مكتبتها مِن المعالم العلمية النادرة في العالم، وتلاقي رفداً واسعاً في التمويل والتبرعات من لدن الأفراد والمؤسسات. ثم تطوّرت أبنيتُها في السنوات اللاحقة؛ بما في ذلك مكتبتها العظيمة والتي تمّ رفدها بالمزيد مِن الكتب والوثائق. 

تخرج من المدرسة الكثير من الشخصيات التي تبوأت مناصبَ عليا؛ من رؤساء دول ووزراء وسفراء، فضلاً عن العديد ممّن حازوا على جائزة نوبل ومراكز القوى.

حصلت المدرسة على المرتبة السادسة بين الجامعات البريطانية في العام 2006؛ بحسب دراسةٍ أجرتها الكارديان، أمّا وفق التخصصات فقد كانت في المرتبة الثالثة في مجال الأنثروبولوجيا، والثالثة في التاريخ، وتاريخ الفنون والخامسة في الموسيقى، والسياسية والإلهيات. 

وظلت المدرسةُ تؤدي دوراً استشارياً مهماً في العديد مِن الدوائر الحكومية والشركات التي تحتاج إلى معلوماتٍ حول بعض القضايا في مناطق آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. 

وتقدّم الجامعة ما يزيد عن 300 تخصص في مرحلة البكالوريوس وأكثر من 70 برنامجاً في مرحلة الماجستير، فضلا عن برامج الدكتوراه. ومن ميزاتها أنّها أسهمت وبشكل فعَّال في إخراج الدراسات الاستشراقية مِن نطاقها اللاهوتي المُتحامل إلى مجال الدراسة الأكاديمية الممنهجة؛ فضلاً عن تحوّلها إلى جهود تحكمها مؤسسات تخضع للنقد والمراجعة والمساءلة. 

ومِن جهة أخرى أسهم العديدُ من الأساتذة الذين تخرّجوا من المدرسة في كتابة الموسوعة الإسلامية The Encyclopedia of Islam بواقع 13 مجلداً؛ وآخذة في التوسّع والإضافة، وهي مِن أدقِّ الكتابات الغربية عن الشرق وعن تراث الإسلام. وأكثرها رصانة وتخصصاً ومتابعة، وقد كُلف هاملتون گب - تلميذ آنولد - بتحرير مادة عربية في هذه الموسوعة. 

وأخيراً لا يُعد هذا المقال قبولاً بكلِّ ما صدر عن المدرسة مِن بحوث حول الشرق، لكنها قياساً على العديد من المؤسسات الاستشراقية الأوربية الأخرى تُعدُّ جهةً أكاديميةً رصينة، قدَّمت الكثيرَ من الخدمات والعلوم والاكتشافات عن الشرق الإسلامي والعربي. 

ثم أنَّ الحديثَ عن المدرسة يبيّن حجمَ التفاني والدعم الذي توليه بريطانيا لمؤسساتها الأكاديمية، ذلك الدعم القائم على المراقبة وانتخاب النماذج المخلصة في تطوير معاهدها العلمية؛ بعيداً عن الألقاب والانحياز، ليكون لديها جهاتٌ متخصّصةٌ تسهِمُ في بناء الدولة والمجتمع، فالحكومة البريطانية دائمة التفاعل مع مؤسساتها الرصينة، وتقبل منها النصحَ والتوجيه والإرشاد، وتستضيء بمعلوماتها وتقاريرها بجديةٍ، وتترجمها إلى مستوى عمَلي.