المذهب الأدبيّ المُضطرب أكثرُ إثراءً للشاعر

ثقافة 2023/04/30
...

 ملاك أشرف

     لا تزال الرُّومانتيكيّة من أهمّ المذاهب الأدبيّة إلى هذه اللحظة، لَمْ تخف حدتها أو يبهت وهجها أبدا، بقيت تعزز الأدب والنقد باستمرار ولديها ما يكفي من المناصرين والاتباع سواء أكانوا أدباء أو نقادا، يبزغ لنا في كل عصر مَن يماثل فيكتور هوغو غربا أو جبران خليل جبران شرقا، إذ يحاول إحياءهم، استعادة أسلوبهم العذب وتأسيس قاعدة جماهرية واسعة تتعرف على هذا الأسلوب أو تسعى إلى السير على نهجه كما يتوقع.

نعثرُ بينَ الفينةِ والأُخرى على رواياتٍ تتحلّى بأسلوبٍ جبرانيّ واضح أو قصائد تنزفُ فيها الأنا وتُبشّر بذاتٍ رُومانتيكيّة عارية لا تخضع للتقاليد والذّوات الثّانية، روايات وأشعار يحلّقُ فيها الخيال، تهيمن عليها العاطفة، وتومض أسطرها بالفلسفةِ والتأمّل فضلًا عن نجوم الحُرّية، المُتدلِّية من كلماتِها!

أثارت الرُّومانتيكيّة الجدالات والخلافات حولَ مُصطلحِها المُضلل ومفهومِها الغائم، فقد طغت على طبيعتِها الفوضى والأنماط المُختلفة من التّعقيد؛ نظرًا لما استعمله معتنقوها من أساليبَ مُغايرة لا تلتقي مع الرُّومانتيكيين الأُخر، كُلّ رومانتيكيّ وأناه وعالمه الهائم البعيد عن المُصاحب لهُ من المذهب عينه رغم اشتراكهم في الخيال الوقّاد، العاطفة الجارفة والتّأمّل الفلسفيّ الشّجن. هذا التّباين في طرائق الأُدباء والنقّاد إلى جانبِ الفكر غير المُتجانس كُلّيًا، المُستقل بعضه عن بعضٍ هو مرجع ذلكَ التّعدد التّعريفي غير المُقْنِع للحركةِ الرُّومانتيكيّة لا شكّ. 

هُناك مَن يرجعهُ إلى المُرادفات المُستعملة الكثيرة لكلمةِ الرُّومانتيكيّة، نحو: عاطفيّ، فاتن وجميل وخلّاب.. هي في الحقيقةِ صفات وليست مُرادفات فلا وجود للمُرادف في اللُّغةِ إطلاقًا؛ ونتيجة ذلكَ حصلَ الإرباك والضّياع في الثّبات على مفهومٍ واحدٍ ومعنى مُحدّد لها بغية بلورتها والإِلمام بها.

عرّفَ الأُدباء الرُّومانتيكيّة بأغرب التّعريفات، قالَ غوته حينها: «إن الرُّومانتيكيّة مرضٌ». وفي رأي هوغو: «إنها الحقيقة الكاملة للحياة!». 

بينما مضى الشّاعر پول فاليري قائلًا: « لا بُدَّ أن يكونَ المرء غير متزن العقل إذا حاولَ تعريف الرُّومانتيكيّة»

يمكنني أن أُضيفَ على أقوالهم بأنها الشِّعر، الرُّومانتيكيّة صنو الشِّعر، ما إن يتبيّن تعريف الشِّعر وماهيته يتمّ التّعرف على الرُّومانتيكيّة، الّتي تمثل شيئًا مُبهَمًا، بل شكّلت وضعًا غامضًا لا يرغب بالكشف عن نفسه والوقوع في فخ المعرفة واللُّغة بوصفِها شبكةَ اصطياد، هي كما الشِّعر تحاول الهروب إلى أبعد ما يكون، مُستندةً إلى تنوعِها الخاصّ النّابع من عبقريّةٍ فرديّة غير مكشوفة الأحوال، مُشابهة للاستعارة والكناية الشِّعريّة تمامًا، إن أجرينا مُقارنةً بينَ وجود الشِّعر وظهور الرُّومانتيكيّة نصل إلى توافقهما وبأن كليهما يراوغ لإكمال اندماجهما الصّرف ونفي الحاضر المقيت المُغترب، الحافل بالألمِ والأنين.

أُؤيد المفاهيم الّتي عدّتها جنونًا واضطرابًا خطيرًا أو عدّتها الحياة برمتِها ولا ثغرة يتسلّل من خلالِها العدم، حيث يعاني المؤمنون بِها والمنتمون إليها من الاستسلام الكامل للعاطفةِ، التّكوين الحالم والرُّؤية المثاليّة! متى كانَ الحالمون مُرفهين؟ الحالمون الواهمون دومًا مُتعبون وعلى وجهِ الخصوص ممّن يتّكئُون على مشاعرهِم، إحساسهِم المكدود وذوقهم المصقول بعيدًا عن الجماعة وقيودها وأفول الكلاسيكيين الغابرين، المُناقضين في مجملهم مع خصائص المذهب الرُّومانتيكيّ. يفرُّ الحالمون من الواقع الكلاسيكيّ، والفرار باعتبارهِ ذروةَ الموت غير المحسوب، بوصفهِ ضرورةً للموتِ بتمهلٍ كُلّ يومٍ وليسَ مرَّةً واحدة أو دفعةً واحدة حثيثة، الشّغف بالمُغادرة هو أيضًا شكلٌ من أشكال الدّمار البطيء، المجهول في بادئ الأمر. 

تمنحُ العاطفةُ الحركةَ الرُّومانتيكيّة دفقًا ولَمَعَانًا في الوقت الّتي ولدت لديهم التّشاؤم والتّصوير الحزين في بنائهِ وجوهرهِ عن الأفكار. تميّزت الرُّومانتيكيّة بِهذهِ العاطفة الغامرة وحرّرت مكتنفيها من القواعد الصّارمة وسلطة العقل القاتلة، كذلك وهبتهم الحُرّية المُطلقة الدّافعة بِهم إلى التّعبير الصّريح الفاضح عمّا تريدهُ النّفس، انطلاقًا من مبدأ الشّخصنة والأنا المُقرّرة، الباحثة عن أجوبةٍ مقبولة للثنائيّات المُتصارعة في الأعماق البشريّة، بيد أنها مُتيقِّنة من عجز قدرتها على تحقيق آمالها وخطاباتِها المثاليّة الرّحبة؛ لذا تنتهي مغمورةً بينَ الأحزان المُرّة، راغبة بالاختفاء والابتعاد عن التّجارب الحدسيّة وضجيجها إلى واحةِ النّسيان الخاليّة من وخزات الذّاكرة. لكن النّسيان، إحساس واعٍ بصورةٍ هامشيّةٍ بالاستسلام إلى اللّا وعي السّلمي المنشود، ومُمكن يبدأ بارتجافٍ مُحمّل بالخوف مع استرخاء لاحق وتراجع في الوعي كبير كما حاولت إيصاله مجازيًّا الشّاعرة كارول رومينز.

الرُّومانتيكيّة إذن أعمّ وأشمل -وإن لَاحَت لنا أجنبيّةً تسترعي التّرجمة- من الرُّومانسيّة (بمعنى الغزل)؛ ذلك لأنّ الرُّومانسيّة موجودة في الأدب القديم قبلَ بزوغ عصر النّهضة وابتداع الرُّومانتيكيّة فيهِ، الّتي كالخيمة تنضم إليها مُعظم المشاعر، الأفكار، الأساليب والتّصورات الأفسح من غرض الغزل ولقطاته أو طبيعة الرُّومانسيّة البحتة، غالبًا ما تبدو الأولى مسبوقةً بكلمةٍ تدلّ على الجدّية وبوادر الإطناب عكس الرُّومانسيّة فهي تستدعي تعبيرات النّقص، الطّيش والاستضعاف بنكهةِ الاستلذاذ.لا أعرف ما إذا كانَ عدد الّذينَ يجهلون هذا لهُ علاقة بكلا المُصطلحين أو أحدهما من دون الآخر، وما إذا كانت الرُّومانتيكيّة وترجمتها الخارجيّة والداخلية (المضمونيّة) مُجرّد ترف، وعدم رضا مغروس في جوهر المُنتميين لها بالنّسبةِ للكثيرين، لعلّها ميراثٌ خاصّ للكاتب، يجهل مصدرهُ أحيانًا! نحنُ نعيش في شكٍّ مُتواصل لا ينقطع عندما نرغب بالقبض على الرُّومانتيكيّة والسّيطرة عليها، قد نتمادى ونبتغي معرفة أزهارها الذّابلة المنسيّة من جهة الأسباب المُرتبطة بسرّيةِ وجودها وهيئتها هذهِ وعليهِ نفشل ونيأس أيضًا..أمّا أبرع وأعظم أُدباء ونقّاد المذهب الرُّومانتيكيّ في نهاية القرن الثّامن عشر ومطلع القرن التّاسع عشر (صامويل كولريدج)، إن لَمْ يكن أهمهم جميعًا؛ لما عليهِ من فلسفةٍ وفكرٍ بوجهٍ عامّ. هو ليسَ فيلسوفًا بقدر ما هو شاعرٌ وناقد في نظري، يستكين إلى نداء الشِّعر الجريح على الدّوام بغضّ النّظر عن صراعهِ الفلسفيّ والشِّعريّ واستحالة الجمع بينهما. كانت لتجاربهِ وقراءاتهِ عميق الأثر في كينونتهِ وتطور فكره إلى جوارِ خيالهِ الخلاّق، كولريدج كأنموذجٍ للاضطراب الّذي يثري ويُرهق روح الشّاعر في آنٍ واحد.

لَمْ يصرف الشّاعر-كولريدج- كما الشُّعراء في حقبتهِ جل اهتمامه في الدّفاع عن قضايا الشِّعر الكلاسيكيّ الريتوريكيّ الموزون أو النيوكلاسيكيّ ونحَّى عنها للغير؛ مُدركًا قدرة الزّمن على إثبات أنها قضايا مُؤقتة خاسرة، تتراوح في زاويةٍ تنأى عن الفكر الثّاقب الأصيل والإسراف في الإحساس الرّهيف.أدخلَ مفهومًا رومانتيكيًّا جديدًا للشِعر، يختلف عن شِعر القرون الوسطى السّائد، القاتل للشِعر ووظيفة الشّاعر قطعًا. إن مفهومه الشِّعريّ يسوغ سرّ إيمانه بالقصيدةِ وتحرّره المُطلق من الأغلال، المُراد طمسها؛ جراء نظرته الشّاملة غير المُعوِزة، المُتمكنة من إرساء دعائم مذهبيّة مُنفتحة حديثة، نحنُ إزاء منظومة فكريّة مُمتازة بلا ريب. الشّاعر لدى كولريدج شخص يتمتع بحساسيةٍ وبساطة غير عاديّةٍ مع تعاطفٍ غير محدودٍ؛ بسبب نشاط المَلكَتين العقليتين (الخيال الأنبل والتوهم) هُما عبقريّة الشّاعر ورغبتهُ في التّوازن والمزج بينَ الصّنعةِ الافتعاليّة والسّليقة أو بينَ الانفعالِ والنّظام، صعب المنال.

ابتغى كولريدج تقليد الفلاسفة ما أمكنهُ والتّراجع قليلًا عن الشِّعر ولَمْ يجنِ من هذا سوى الضّئيل وبقيَّ شاعرًا وناقدًا فذًّا؛ في الأخيرِ أنتج نظريةَ الخيال الشِّعري، أراد بِها بيان قيمة الشِّعر وربطه بمسائل الحياة الجادّة، من ناحية إضفاء صورة مُوحدة ذات معنى على الفوضى الحياتيّة بأكملِها. هُنا نستنبط رؤية خالصة مهمّة يبثّها الرُّومانتيكيون كي يضعوا الشِّعرَ في أسمى الأمكنة المرجوة، يلي هذا حيرتهم وتخبّطهم تارةً، نظرتهم الهدّامة وتصورهم المثاليّ الّذي مُمكن أن يكونَ هذيانًا تارةً أُخرى، كأنَّ الشِّعر فعلًا وليد تلاطم ضجيجيّ ينظّم نفسه فيما بعد.

يُبِين الشّاعرُ في ضوءِ المذهب الرُّومانتيكيّ ونغمة نقده رحابة أُفقه، يذهبُ قائلًا عن الشّاعر العبقريّ ونتاجه الرّوحيّ، وبالأحرى يعني أناهُ العبقريّة الشّاعرة سواء بوعيٍ أو من دون وعيٍ منهُ: «يلقي ضوءًا جديدًا على الأشياء». أي كانَ مع فكرةِ أن على الشّاعر الاهتمام بالتّعبير الرّائع عن الشّائع الاعتياديّ.أشعرُ بالاقتناع بأن قصائد كولريدج وتصريحاتهُ الشّاعريّة ظاهريًّا، الفلسفيّة باطنيًّا هي سيرةٌ ذاتيّة تشرح هيجانه الأدبيّ؛ لأنّي أفهم ما يعنيه الشّعور والتّفكير الرُّومانتيكيّ. بعض الأشياء الغريبة تلاحقهم إلى أن تصبحَ سببًا في تغيّر نظرتهم نحوَ البيئةِ المعيشة، الّتي أرسلت أشياءً جديدة تحرّكهم. حينما تتغير بيئة الشّخص لا تتغير أخلاقهُ وحسب، بل تتغير حتّى طبيعة قصائدهُ وموضوعاته. أفضى تغيّر الزّمان وجريانه المَشُوب آنذاك وحتّى الآن إلى مذهبٍ يجري مثل سرعتهِ بلا هوادةٍ، مذهب باتَ مصبوغًا بألوان المنفى الدّاخليّ المُتناقض واختار معجمه الشِّعري ببراعةٍ.ألهمَ الشّاعر كولريدج جيلًا من الشُّعراء بفضلِ قصائده الرُّومانتيكيّة الغنائيّة وكوّنه أحد شُعراء البحيرة المعروفين. قصيدة البحار القديم، قُبلاي خان والكآبة وآلام النوم من أبهى وأجود أشعاره على الإطلاق.«لدي إحساس بكُلّ روحي/ في أنني ضعيف لكنني لستُ فظيعًا،/ وبداخلي وحولي وفي كُلِّ مكانٍ/ هُناك القوّة الأبديّة الخالدة والحكمة/ لكنني ليلة أمس صليت بصوتٍ عالٍ/ وسط الكرب والعذاب،/ مرَّت ليلتان: فزع في اللّيل/ حزن وذهول في اليوم التّالي./ والّذين ازدريتهم هُم الأقوياء فقط!/  يجتاحني التّعطش للانتقام، والإرادة ضعيفة/ والحيرة تمتلكني وكُلّ ما بداخلي يشتعل!/ كُلّ ما أحتاجه هو أن أكونَ محبوبًا،/ ومن أحبّهُ، أنا أحبّهُ حقًّا». مقطوعة شِعريّة يقولها كولريدج ولا أظنّ يوجد مَن يتجاوزها ويمضي بعجرفةٍ من دونِ دمعٍ يتجمعُ ويترقرق في عينيّهِ.. ينعكسُ تلخبّط المذهب الرُّومانتيكيّ على قُرّائهِ الّذينَ يتلخبطون مثل شُعرائهِ المُنْفَعِلين المُنتجين لهُ، حيث يجمع واحدهم بينَ الطّموح الساميّ والحلم الواهِن الدّفين، إنه مشهد لجيلٍ رُومانسيٍّ مهزومٍ باقٍ، يهمشهُ المُجتمع الاِتّباعِيّ ولا يكلف فردٌ نفسه لفهمهِ واستيعاب هشاشته وتخبّطه أو يتمعّن في شِعرهِ الآسر على الأقلّ، يا للحسرة لَمْ ولن يظفر بما هو أهلٌ لهُ من الاحتفاء والنّقد

بالتّأكيد!