لتكون رحلتنا طيبة

ثقافة 2023/05/02
...

 ياسين طه حافظ

منطلق هذا الحديث قولٌ شاسع الدلالة وفي منتهى الايجاز. هذا القول للحسين بن منصور الحلّاج:

"عليك نفسَكَ إن لم تشغلها شغلَتْك.." أصل الكلام ومناسبته أن خادم الحسين بن منصور الحلاج دخل عليه الليلة من الغد لقتله، فقال له:"اوصِني" والوصيَّة عند الصوفيَّة الموعظة، فأجابه الحلّاج: "عليكَ نفسَكَ إن لم تشغلها شغلتك.." هذا الكلام وإشغال النفس: "أو هي تشغلك" 

يضع المتأمل، صاحب الانتباه، بين الشأن اليومي وتشعّباته او الحياة الدنيا بمشاغلها آكلة العمر والدماغ، من خصام وكسب وخسار وطبع ومنال، وبين أن ننشغل بالروح، بالمعنى، بالنفس وما ترى ولاترى وتعرف ولاتعرف، بمحنتها في الكون واحتفائها الفردي بالمعجزات، ولمح المعنى وتعذر الوصول اليه. فإن لم تشغلها شغلتك بحيرتها أو بشاغلها. 

يبقى السؤال: أيهما الشاغل الأول وأيهما الآخر الذي يهددنا القول 

فيه؟ واضح ما يريد الحلاج وواضح ما يريد العوام، لا مفاضلة الآن ولكنه خيار بين أن تبقى أرضياً وأن تتسامى. وتبسيط الكلام: بين ما نراه من شأن فيمن اوتوا معرفة فاكتأبوا لما يرون وما يحيق. 

وبين اضطرار من عرف بعضاً وانشغل عما ظل بعيشه ترزّقاً أو تسابقاً أو استغفالاً وكيداً، أو لهاثاً لنيل وانخداعاً ولا جدوى. مشكلة الرائي غير مشكلة الذي لم يطمع بمعرفة ماتبقى فاستدار عنه لدنيا يومه، يأخذ منها ما استطاع وما تمكن بلأيٍ أو بغير لأي. نحن عموما نعرف الدنيا وما نحتاج له لننال أو لنتفوق أو ليرانا الناس أكبر مما 

نحن. 

ننشغل بما لا يستحق ولا يدوم ونشغل غيرنا فيه. وهنا نكون ابتعدنا عن "المعنى" وابعدنا الغير عنه حين أخذناهم معنا للغو والفجاجة. الكياسة مطلوبة، رجل يومك كنتَ أو كنت رائياً. فإن خسرت الانتباه وخسرت الاتزان وقياس الأمور بما يُحتمل، تكون افرطت والسخرية منك أقرب. 

وإن كنت عارفاً رائياً فتشوّقت أكثر، كما الحال عند الصوفيَّة، فستجد لك مثلاً عند الحلاج الذي انفلت عن حاجز المألوف واستهان بالرادع ونسي كل شيء غير ما رأى، نكون خسرنا عند ذاك التوازن الذي يقي ويحمي السرّ ويقول لشرور العالم، قفي عندكِ لا تقربي بعد 

أكثر..

لسنا الآن بصدد المفاضلة، كما قلنا، وإن دلت الاشارة على تلك في السطور. لكننا أردنا الاشارة الأوضح لما نرى عند الناس، من الذين يعنون بالمعرفة والكتاب ويعملون ما يعمل عموم الناس لدنياهم. فاذا استثنينا قلة من السواد، قلة قليلة، فالكثرة الباقية شاغلة الأسواق والشارع وما فيه، ومنهم اللاغطون بكل ما يرون وما يعن لهم ويسمعون والذين يأخذهم البيع والشراء ويلهجون بما يستحق ولا يستحق الكلام. اللهاث للنيل واللهاث لغواً لمنح الانا ما لاتملك لعل تحظى بكسب أو بجاه وشأن، هذه الثلاثة لا تأتي وإذا أتت فسرعان ما تغافله وتمضي. هم بايجاز، ناس أقرب للكذب منهم للحقيقة وأقرب إلى الدنيا منهم الى خلوة 

المعرفة.

فهل نلوم أولاء، وقد نكون منهم، وهل خطأ ان ننشغل بصدق الحاجة كما انشغل غيرهم بصدق الرغبة في لقاء ذي الجلال الخالق ودوام الاشتغال بمحبته والاستغراق بحقيقة العمل لتحقيق المرام؟ العقل يقول كلا! نحن لا نغفل مطلب النفس لنعيش وتكسب وتنجو ولكننا نأسى لخسارة ما وراء هذه وان يظل الفرد فردَ يومه تاركاً معناه في هجر منشغلاً بالزائل عنه بعيداً عن الكوني وعن المعنى الذي تفتح المعرفة له أفقاً، فتصد الحاجةُ البصيرة عنه، فاذا هو غفل 

منسيّ. 

هنا خسر العارف نوره أو معرفتَه، والكريمُ الكرامة التي دنت له فأضاعها. تلكم هي حاجات الدنيا وأسبابها ونحن نريد نعيش كما نريد نرى. 

هنا الوفاق على حاجة أبعد لازمة، مطلوبةٌ لنحتفظ لإنسانيتنا المعوزة، المتشوقة لجمال ومتعة وعظمة ما وراء التأمل. وهي حياة أخرى ما كان يجب أن نخسرها ونحن نعيش، ما كان يجب أن نضحي بها ونحن نأكل خبزاً أو نلبس أو ننال و... نكذب على النفس والحياة، وهنا اكتمال 

الخسارة!

العيش يوجب كذباً فعلاً ووسيلة، ولصيد أو لكسب أو لسلامة. والكذب مرة يكون إثماً وإذا اضطررنا إليه كريهاً والتمني دائماً الّا تلجئنا إليه ضرورة. الخوض في معمعان الدنيا ليس أشراً ولا إثماً. هو عمل وهو كسب عيش وتمكن من الدنيا. لكن المعرفة تذكرنا بخسارة جُلّى لا تستوقفنا، ولا تستوقفنا لأننا لا نراها ولا نراها، لأننا لا نهتم بها منشغلين كل الانشغال بسواها.

فهل هذا يمنع من أن نمتلك الحكمة، وان نبعد بعض الكذب في السلوك، في القول والعمل ونحتفظ بدلاً من ذلك بالكياسة، بنظافة المنطق والفعل والّا نكون صِبيةً ونحن شيوخ ولا شيوخاً ونحن نشغل أنفسنا ونشغل الناس بما هو لغو يومي، وصغائر حياة وقد كبرنا ودارت حولنا الكتب، فكأنْ كل شيء بلا معنى، وكأن لم نكن يوماً ناسَ تعلّمٍ وكتاب؟

لا الثياب تغطي الحقائق ولا لباقةُ أو جمالُ الكلام. هذه كانت أدوات ناس البلاطات، بلاطات أوروبا القرن السابع عشر، عُرفت بها. ومثلما تقدمت فنون الكذب والنميمة والمنافسات على الخطوة والجاه، ترعرعت بحكم الاعتياد، ومن خلال ذلك، ما استوجب نجاحها وصارت مقومات سلوك. انتجت ضمن ما انتجت من لياقات الاحترام وتعابير الود والارضاء فإظهار التأدب الذي كان وسيلة قربى صار مدنيّة وأدب تحضر، ذهب ذاك وظل هذا وهي حسنة والحمد لله. لكن ظل السائد في سلوك قصور الدولة: أسمعْ ما يريح ويبهج وإن احتفظت بقلبك بشيء من مرارةٍ وغيظ.."

ما يهمنا هو إن لم نكن متأمّلين وعشاقَ معنى، فلا نكن كَذَبةً كثيري لغو، ولا نكن ونحن نمارس خزعبلات القول والسلوك، بهاليل! المركب صعب والطريق مزدحم بالمتكسّبين، ولكنه طريق. ليس طويلاً كما يبدو هي سنوات تمرّ. فلنمتلك ونحن فيه مذاقاً طيباً من رحمة، من محبة وفهم لأحوال الغير وعذراً. ثم لا ننسَ في هذه الرحلة فرصة لأفق الحياة الأخرى، فرصة نتفقد فيها أرواحنا خشية أن نكون خسرنا المعنى وخسرنا الكياسة والاحترام مع 

المعنى!