طيور أكرم الأمير

ثقافة 2023/05/02
...

  حبيب السامر


حين فتحنا باب المصعد في مركز الأورام، نقصد غرفة صديق راقد هناك، تعطل المصعد فجأة، هممت بالنزول سريعا وكأنها الصاعقة، فعلا هي فوبيا المناطق المرتفعة والمغلقة، سلكت سلما جانبيا للوصول في ذات الوقت مع من استقل المصعد، دخلنا غرفته، الشاب الأسمر النحيل، كان سعاله متناوبا كاد أن يخنقه، احتبست في عيني الدموع وقد أخذتني اللحظات إلى كتابه (الطيور تفضل المشي)، ها هو يرقد على سرير بشرشف أبيض كقلبه، تبادلنا التحايا في محاولة أن نعزز فيه شجاعته التي اعتدنا عليها، كان يطمئننا بابتسامته التي يحاول أن يظهرها على شفتين يابستين، يبللهما بين حين وآخر بلسانه.

المقهى المنزوي في شارع ضيق ينتظر قدومك أيها الشاعر الشفيف، جلستك هناك وأنت تسرف كثيرا في تناول الشاي والسجائر، وحديثك الهادئ عن الشعر والفن والصحبة الحقيقية، كنت تنتظر قدوم أصدقائك الذين اعتادوا على اريكة المقهى الذي تناوب في الجلوس عليها أدباء وكتاب المدينة وبعض رجال يجيئون من أجل الاستمتاع بحديث الأصدقاء، كم حزنا حين كنا نتفقدهم بالوصول إليك والوقوف على حالتك الآن، كان الأغلب منهم وفيا جدا لصحبتك الوثيرة.

هناك في زاوية الغرفة يجلس والده، يرفع يديه مبتهلا سلامة ولده، كان يعدنا بأنه سيكون أفضل ويطبع كتابه الجديد على نفقة الاتحاد، وستكون هناك جلسة خاصة للاحتفاء به شاعرا يكتب بلغة مختلفة لا تشبه أية تجربة أخرى وهذا سر نجاحه المبكر، كما بين نقاد آراءهم حول شعرية الأمير من خلال استحكام نبرة الحزن وهذه مرايا الواقع العراقي وفداحته، معلقين على تسميات عدة لهذا الجيل الذي طل علينا من نافذة بعد التغيير، هناك من يقول إنه الجيل الشعري العابر للأفكار المؤدلجة، والنافر لكل القوالب الجاهزة في بناء كشوفاته الكتابية بعيدا عن مستوى الشفاهية والخطابية في النص الجديد،

لست في صدد قراءة قصيدة أو كتاب المغدور والمغتال بمخالب المرض اللعين، لكنه لحق بعمر رامبو من دون أن يحقق أحلامه الصغيرة التي كان يدونها في محفظة الأيام، هذه الملاحظات الضاجة بالحياة والمكتوبة بعذوبة الحديث عن الفن والشعر وأفياء نخيل المدينة، لماذا ينطفئ هذا التوهج الممزوج بالتمرد على كل سائد، والمتوغل عميقا في الطرقات التي تحمل أسماء الغائبين، كم كان يقرأ نفسه في قصائده كما السياب وهو يتحسس الموت محيطا بكل اتجاهاته: (القارب الخشبي يبدو أثقل حين يلامس اليابسة/ يتمسك بالطين/ كما لو أنه يريدُ أن يعودَ شجرة/ هكذا هي الأجساد ثقيلة بعد

الموت).

فعلا، كنا ننتظر أن نتعرف على سر لغز مجموعته الجديدة (الاسم الثلاثي لآدم) لولا يد الموت القاسية تسحب روحا شاعرة إلى ترابها الذي لم يختره، وكأنه يرمي لنا آخر مسودات في فضاء المقهى وهو ينتظر شاي مقدام، وكورنيش الشط متأملا نوارسه التي تأكل من يديه، وكل زاوية تنفس فيها عطر الكلمات. تحسست دفء مكانك ذاته الذي اعتدت الجلوس في زاوية المقهى، تأملت الصور المعلقة على الجدران، فيـــما طيــــورك كـانت تفضل المشي في طرقات 

البصرة!.