عندما يحتضر البلد

ثقافة 2023/05/02
...

  حربي محسن عبدالله

بين أيدينا رواية {احتضار الفرس} للصحافي والروائي السوري خليل صويلح، الحائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب. ما بين فجيعة الحرب والإنسانية المسروقة يروي صحافي وقائع رحلة في الحافلة من  العاصمة دمشق إلى منطقة الجزيرة السورية، وبالعكس.

وإذا بالبلاد الممزقة أشلاء شمالا وجنوباً تحتضر مثل فرس حيناً وتبتلع موتاها في مقبرة جماعية، وتنهش من تبقى من أحيائها في وليمة جهنمية باذخة حيناً آخر. 

في الرحلة تلتقي مجموعة من شخصيات، مختلفة المشارب والهموم، صائد طيور ومرضى، وقطّاع طرق، ويستعيد أمكنة من الأزمنة السعيدة قبل أن تستحيل حطاماً وأشلاء بشر وتاريخاً مشوّهاً. 

في دمشق يعيش عزلة اضطرارية بسبب انتشار "كوفيد 19"، يقول "أسير بلا هدف في شوارع مدينة تحتضر على مهل، مثل فرس، مدينة تبدّل جلدها مثل أفعى كوبرا، تبتلع ذاكرتها وتاريخها وعمارتها كل يوم"، فيتأمل تهافت المدينة العريقة التي تحوّلتْ إلى مدينة مهاجرين ومهجّرين، مدينة الطاعون والجرب والمُعتقلات، مدينة الحملات التأديبية المتعاقبة منذ ألف عام. 

ويستذكر ما قاله ذات مرة أوكتافيو باث: "نحن محكومون بالعيش في عزلة، إلا اننا محكومون أيضاً بتجاوز عزلتنا، واستعادة الصلات التي كانت تربطنا بالحياة في ماضٍ فردوسي. 

في حالة من تأمل الماضي الذي حفل بالبيانات رقم واحد، وكيف يتناسل الجنرالات من الأرشيف بكامل أوسمتهم، ومراتبهم، وتسجيلاتهم الصوتية وبخيوط من الدم تسيل من جباههم.

يرحل صاحبنا من هذه المدينة نحو الشمال الشرقي من البلد، من المدينة التي بهت لونها لهجران حبيبة ينتظرها ولا تأتي، ورحيل صديقه المصوّر من بيته الذي أمسى ماخوراً تديره إحدى المافيات وليدة الحرب. حتى يزدحم المشهد بأحلام، ومشاريع، وقصص حب محبطة، فقد كان العالم يتهاوى وراء زجاج واجهة المقهى بمطرقة أيديولوجية ضخمة، قبل أن ينطفئ الجميع حول طاولة أخرى في خمارة "فريدي". 

يروي لنا أحداث رحلته المزدحمة بأخبار القتال والضحايا والموت بعد أن تصله بالبريد قصة أب فقد ابنه في القتال، وكان أقصى ما حلم به الأب، ظهيرة ذلك اليوم من أيلول/ سبتمبر 2020، أن يصل جثمان ابنه كاملاً غير منقوص من إحدى جبهات القتال، وان يدفنه على  عجل. 

في هذه الاثناء يقرر السفر إلى قريته النائية في منطقة الجزيرة السورية، يقول: ماتت أمي، ولم أتمكن من حضور جنازتها، لبعد المسافة ووحشة الطريق، وكان عليّ أن أتدبّر وسيلةً لزيارة قبرها على بعد ألف كيلومتر من  دمشق. 

تأخذنا الرواية لوصف دقيق شامل وشفيف لكل ما يلامس الفؤاد من ذكريات طفولة وأماكن لعبتْ بها الأقدار ومزقتها وحوش الظلام وأمراء الحرب والكتائب المختلفة التي تعمل على جباية الأموال من سائقي الحافلات، ومصادرة بعض أغراض الركاب، والاعتقال التعسفي لمجرّد الشبهة، في حال كان مزاج رئيس الدورية سيئاً، مقابل مرور الحافلة بسلام، هذا عدا مفاجآت قطّاع الطرق الذين يشكّلون كمائن غير متوقعة. 

ولتجنب كل هذا في طريق الذهاب يقرر الصحافي أن يسافر جواً إلى القامشلي في طائرة الشحن "اليوشن" من دمشق إلى مطار القامشلي في رحلة تدوم ساعتين في طائرة متهالكة لا مقاعد فيها، مع حقائب المسافرين وتوابيت ثلاثة كانت تحتل الجزء الأمامي من الطائرة، يحرسها جنود ذاهبون في مهمة لتسليم جثامين جنود كانوا قبل أيام، يتبادلون معهم السجائر، وكؤوس الشاي، والنكات، ونوبات الحراسة.

بعد أن يصل إلى مطار القامشلي يقلّه سائق كردي إلى قريته النائية ليزور قبر أمه. في الطريق المتعرّج جنوباً، باتجاه مدينة الحسكة، يصف لنا الصحافي القرى الطينية المتناثرة، والتلال المحيطة بها، والكنائس المدمّرة، إثر هجوم كتائب التنظيمات التكفيرية على القرى الآشورية، وتحويلها إلى أنقاض؛ حقول قمح أتتْ عليها الحرائق الموسمية على جهتيّ الطريق، وتلال أثرية منهوبة. 

خريطة مقطّعة الأوصال، يتقاسمها الأكراد والعشائر المحلية، تحت مظلّة أمريكية، وروسية وإيرانية وتركية. 

ناقلات جنود عابرة، وعربات همر أمريكية، وعربات تايغر روسية، بابل لغات ولهجات وبارود وعملات، تتمازج وتفترق، تبعاً للأهواء والمصالح.

في رحلة العودة يلتقي في الحافلة التي تسير بركابها ليلاً بصائد للطيور يحكي له مغامرات صيد الصقور وبيعها ولرجل يصطحب زوجته المريضة بالسرطان وهو في مراحله النهائية علّه يجد لها علاجاً في العاصمة. 

كان معظم المسافرين في تلك الرحلة الليلية، من المرضى. مرضى السرطان بالتحديد، بفعل انبعاث سموم حرّاقات النفط البدائية التي تستثمرها مافيات محلية، مرضى منهكون على أمل الشفاء في مركز علاج الأورام المستعصية في العاصمة، لعدم توفّر العلاج في المراكز المحلية.

رواية "احتضار الفرس" هي رواية الهمّ السوري شعباً وبلداً، بعد كل ما مرّتْ به سوريا من آلام مخاض لمولود مشوّه، كان هو السبب في احتضار الأم. 

أو على حد تعبير الكاتب "كانت لحظة أفول لبلاد على هيئة ذبيحة منزوعة الأحشاء. معلّقة بكلّاب صدئ، من القامشلي في أقصى الشمال إلى مدرّج بصري في الجنوب".