الغريب أنسي الحاج

ثقافة 2023/05/03
...

أحمد عبد الحسين

يوم نشر أنسي الحاج أولى قصائده، كتبتْ خالدة سعيد لزوجها أدونيس رسالة قالت فيها إنَّ “شعر أنسي غريب”.

لاحقاً ستكتب عنه خالدة كثيراً، لكنها في كلِّ ما كتبتْ كانتْ تستعيد تلك الجملة لتحاول التعرّف إلى الغريب الذي يستوطن شعر صاحب “لن”.

الشعر عموماً غريب. أبناء المدينة الذين يتصفحون وجوه بعضهم البعض يومياً بألفة تبلغ أحياناً حدود الملل، سيتعرّفون بيُسرٍ على الشخص الغريب الذي يتجوّل في أسواقهم، يتلفّت وعليه سيماء التائهين، وبقدر ما يرغب في التعرّف على ملامح المدينة فإنَّ المدينة نفسها تمتلئ بالفضول وتريد التعرّف إليه.

كان السيّاب غريباً ليس على الخليج فقط بل في كلِّ مكان تطأه قدماه، وكان يصعب التفريق بين غرابة شعره وغرابة شخصه، غرابة قسمات وجهه التي تُدير إليه الوجوه وغرابة قصيدته التي سرّحتْ عمود الشعر الألفيّ وأقعدته في البيت متقاعداً باعتباره مجرد تراث.

يُشيع الغريب البلبلة، يكسر ألفة المكان ورتابته بحضوره، ويخيّل لي أنّنا نستطيع التعرّف على الشاعر الحقيقيّ من مجرد وجهه الذي يقطر هيماناً بين الوجوه. ألم يقل السيّاب جملته “أتيه في حدائق الوجوه”؟

أطلّ أنسي الحاج على زمنه غريباً كما يليق بشاعر. غرابته مؤسسة على هذا المزيج الفريد من السورياليَّة “الرأس المقطوع” والرفض “لن” والثوريَّة المؤدّاة بلغة إنجيليَّة، ثمّ الانهمام بالحبِّ انهماماً يرفعه إلى مصافّ القداسة “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”. وثمَّة في كلِّ شاعرٍ تدار إليه القلوب هذا الخليط غير المتجانس أحياناً مما يحسبه الناس أضداداً لكنه في الحقيقة علامة حريَّة، ومن أولى علائم الرجل الحرّ استيفاؤه حقّه كاملاً من حريَّة التناقض.

أنْ تكون غريباً باب مشرعة لأنْ تكون حراً، فما لأحد عليك دالّة في هذه الأصقاع وأنت الغريب الذي لا تصلك بالمكان والشخوص علاقة تهدّد سلطانك على ذاتك، تشعر أنَّ السورياليَّة مثلها مثل المدوّنات الدينيَّة موجودة من أجلك، من أجل إدامة غرابتك وحريتك على السواء.

تكاد تنعدم الخطوط الفاصلة بين الينابيع التي يستقي منها الشاعر الغريب برغم تضادّها، وتبعاً لذلك تنعدم الحواجز بين الأنماط التي يكتبها، فلا تعرف على وجه التحديد أين يقول الشاعر ذاته هل في الشعر الخالص المؤدى بقدر وافر من التجريد واللغة المصفاة من الزوائد أم في النصِّ الذي تتداخل فيه الأجناس كلّها من قصّ وسرد وحكي وحوار؟ هل في “الوليمة” لأنسي الحاج أم في خواتمه؟

قبل أيام صدرت الأعمال الشعريَّة الكاملة لأنسي الحاج عن دار المتوسط، وهي مناسبة لتجديد رؤيتنا لهذا الوجه الغريب الذي دخل إلى مشهد العرب الشعري فبلبله بنصّ هو مزيج من إرث يبدو غاية في التناقض والتنافر وليس مقدراً له أنْ يلتئم إلّا في وعاء حرّ.

لكنَّ طائر الحريَّة لا يستقرّ إلا على رأس غريب.