هاشم الأيوبي و {قطاف الخريف}

ثقافة 2023/05/03
...

يقظان التقي

صدرت للعميد الدكتور هاشم الأيوبي مجموعة شعريَّة بعنوان “قطاف الخريف”، عن “ دار البلاد للطباعة والإعلام “، في 174 من القطع الاعتيادي.

الشعر أولاً. والجامعة كما الشعر هي الجوهر، روح المجتمع المفتوح، وفي زمن الجوع إلى كلِّ شيء، العميد هاشم الأيوبي طاقة غنيَّة جداً، فيما يتجاوز النصُّ الأدبي الشعري إلى النصِّ المركب ضمن بيئة الشعر الأوسع، وسنكتفي بالتكيّف مع ملامح الدلالات الشعريَّة، وليس الدلالات نفسها لغناها وتوسعها.

بالشكل واضح السيطرة على التأليف واللغة والمفردة التعبيريَّة والإيقاع الموسيقي المتماسك.

في المضمون الشعر هو الجوهر. كلّ جوهر هو شعر. لا تحديد للشعر. فرنسيس بيكون يُحصي ألف تعريف للشعر. الشعر لا يحده حتى جوهر، هو من دون تحديد لأنه في لحظة شعريَّة يحرر صاحبه.

العميد الأيوبي في ديوانه أصابعه مبللة بالحياة، بالاجتماع، من الذاتيَّة والعائلة، إلى السياسة والتاريخ والعروبة والثقافة القوميَّة والبيئة الشماليَّة الجميلة، إلى اللغة الكلاسيكيَّة في الشعر القديم، أصابعه مبللة بالكثير. ليس شخصاً معزولاً، يكتب أشعاره بكلِّ الحواس. تقرأ ديوانه كأنك تقرأ في المجتمع المفتوح.

لكن ما الذي يبرر العودة إلى الشعر من جانب أكاديمي رفيع وهذا النص التعددي في قصائده؟.

لا شكَّ هو هذا الاختبار الوجداني، والاختبار الوجودي/ الأخلاقي، التاريخي/ والسياسي.. على أنَّ الاختبار الكلاسيكي صحيح. الراديكالي ربما. ذلك أنَّ هاشم الأيوبي من جيل شهد مخاطر الانغلاق وأشكالاً من الخيبة ومن الانتكاسات ولكن أيضاً شهد أشكالاً من النهوض القومي والمعرفي والفكري العربي في عقد وآخر من ازدهار الأفكار والآداب والفنون والسياسات في الستينات والسبعينات وفي مدى مزدهر من بيروت، وكليَّة الآداب في الجامعة اللبنانيَّة إلى عواصم العالم. فيعود إلى الشعر بكلِّ ذاتيته وعنفوانه وبطبقات من الذاكرة العميقة تلك. الشعر يأتي تأكيداً على مساحات في الوجدان نستشعرها وتعود إلينا أكثر تحديداً عاطفياً وعلى طريقة الميزان.

الشاعر هاشم الأيوبي كأنه الجوهرجي في قصيدته. شاعر في غاية في الانضباط، أشعاره بلا زوائد، هوامشها ليست مسألة تقنيَّة، هوامشها في الجوهر. حقيقي جداً يأخذنا إلى جهات تحيي معنى الكلمة ومعنى الالتزام وبشكل “ستوري” حياة سرديَّة نرى من خلالها الطريق تلك وخلفها وعلى يمينها وشمالها وما حول الطريق من أشياء وتفاصيل في العبور الشعري الجميل.

القصيدة ليست نصاً أدبياً فقط. وهي ليست لعبة إخراج بعناصر الحياة تلك، شخوصها وأبطالها وصورها. جميل أن تكون روائياً وأكاديمياً، والشعر أيضاً في جوهره فلسفة حياة.

سارتر كتب عن فلوبير ألف صفحة.

البير كامو كان فيلسوفاً وروائياً أولاً غوته/ بول ايلوار.. كل هؤلاء يقرؤون في الشعر والأدب. ما الذي يبقى من النص سوى تلك الترجمة للصوت الشعري الداخلي. قد تكون ترجمة معاكسة للنص الأدبي للمنحى الذي تأخذه الصور والأحداث. لذلك يحتاج نص الأيوبي لقراءة توسعيَّة.

نحن هنا مع الشعر الصافي في لحظة لقاء مع لغة مستقاة من الواقع تتحرك في أكثر من قصيدة واحدة تجري غنيَّة بشروطها وبنيويتها المتينة وبأدب الكلمة والمعنى البلاغي وتلك الحساسيَّة المرهفة الجارحة حين تذوب المادة الشعريَّة في معماريَّة ببنيويَّة من الأوزان وبشروط الشعر والحياة في آن.

لا يقرأ الديوان قراءة أحاديَّة، أو مباشرة بكلِّ خلفياته وصوره وما وراءها. قد تكون القراءات متباينة. المهم أنَّ الشاعر يأخذنا إلى غير المباشر. الشعر هكذا يتجاوز ليلتقط عمق الظواهر.

هاشم الأيوبي يمارس “شاعريَّة تاريخيَّة”. لمَ لا؟ التاريخ هو اليقين، والشاعر يُخضع مادته ويبنيها على مصداقيَّة أكاديميَّة. لا أقول إنَّ كلَّ الشعر هكذا.. عادة الشعر يتجاوز الذين خانتهم الأزمات والحلم وغدرت بهم التقلبات فما بالك.. لكن لا! إنهم الأيوبيون الجدد/ الأقوياء يجتمعون شعراً بذاتهم، يدافعون عن آخر ما يبقى من لغة الانتماء في المدى الإنساني المتاح.

قصائد الديوان تأتلف به/ يلفها العنفوان/ على نقاوة/ ألفة. أما الذاتيَّة العاطفيَّة تجاه العائلة والابنة، فتجدها مرتبطة بغنائيَّة وبألفة العائلة نفسها مع التاريخ والجغرافيا ومدينة طرابلس التي تمدها برومنطقيَّة غنائيَّة رمزيَّة حين تتجاوز الذات إلى الآخر. الذات لا تنتج الذات، الذات تنتج الآخر قريباً كان أم بعيداً.

كانت الأمور على زخم كبير في هذه البلاد، لا أقول كانت مثاليَّة، على الشاعر أن يبحث عن أسباب انخراطه فيها والتماثل معها، فيصير شخصاً شعرياً وأكثر، مزيجاً من الأشخاص الحقيقيين تجسيداً للأفكار التي يدافع عنها وبفرح.

شخص يتمتع بسلاسة ومؤانسة وفرح يتمتع به الأقوياء.

الشعر شخصي بامتياز. والشخص أمامنا مجسد بالقصائد والأفكار. هذا مصدر كبير للغنى. قصائد تشبه الرسائل تشغل الحواس كافة وتشعلها بالتماعات وجاذبيَّة عالية تطال عمق الظواهر التي سادت.

ديوان سلس/ ممتع/ شيق/ صورة ونبض ضوء أنيق متدفق في خلجاته، ويعكس الشعر هذا المدى المفتوح لشاعر أمامنا.

هاشم الأيوبي اللورد الشعري الجميل!. الزمن هو الزمن قديمه وجديده، والفصول هي كلّ الفصول وإن كانت قطاف الخريف. هي قطاف وأوراق وموسيقى الحنين لزمنين وأكثر.