أمبرتو إيكو بين عملية القراءة وبنية الشفرة

ثقافة 2023/05/04
...

 سلام رحمن التميمي

يقدم لنا امبرتو ايكو في نظرية السميولوجيا ودور القارئ، نهجين مختلفين يكمل إحدهما الآخر. فالكتاب الأول لا يحصر اهتمامه بالأدب حسب، بل يحاول وضع نظرية عامة لجميع أنظمة الإشارة وعمليات الإتصال، أما الكاتب الثاني، دور القارئ، فيقتصر اهتمامه بالسميولوجيا على القراءة فقط وتطبيق ذلك في الأعمال النقديَّة. بيد أن العمل النظري العالم لهذا الكاتب يقدم لنا وصفاً دقيقاً للفرق بين النتاجات الأدبية وغير الأدبية الخاصة بالسميولوجيا، كما يقدم لنا نقاشاً للدور الفريد للعلم الأدبي في إثراء عالمنا الثقافي. ولما كان كتاب دور القارئ يستند إلى هذه الأفكار فسوف أؤجل الحديث عنه إلى أن أنتهي من تقديم نظرة موجزة للنظرية العامة عند ايكو.

من الأمور الجوهرية في عمل ايكو اعترافه أن أية نظرية للمعنى تنطوي على نظرية للعمليات وأخرى للبنى. فالسميولوجيا عنده ذات شقين، يؤكد إحدهما الاستدلال، والآخر الاتصال: (إن سميولوجيا الاستدلال تستوجب نظرية للشفرات. أما سميولوجيا الاتصال فتستوجب نظرية لأنتاج الإشارات). ويشبه هذا التمييز الفرق بين النظام والمثال، أو بين القدرة والانجاز أو بين اللغة والكلام: (إذا وُجدت إمكانية في العرف الاجتماعي لتوليد وظائف الإشارات وجد معها نظام الاستدلال ومن ثَّم الشفرة وهناك، على النقيض من ذلك، عملية للاتصال إذا استغلت الامكانيات التي يوفرها نظام الاستدلال من أجل إنتاج تعابير مادية لأغراض تطبيقية عديدة).

ويتفق ايكو وفكرة دي سوسير في أهمية اللغة، فيعطي في بادئ الأمر الاستدلال الأولوية ويأتي الاتصال في المقام الثاني: (نظام الاستدلال تركيب مستقل للإشارات له أسلوب تجريدي في الوجود مستقل عن أي فعل محتمل للاتصال يمكن أن ينتج منه. وعلى النقيض من ذلك فإن كل فعل للاتصال عند أو بين البشر يفترض سلفاً نظاماً للاستدلال ويعده شرطاً له). يجسم هذا القول الاتجاه البنيوي ويوضح الميل نحو عد النصوص المختلفة أنظمة شفرة وليست معاني معينة، فالبنيوية تعد كل نص لغة مفردة بذاتها وبذلك تزعم المناقشات البنيوية أنها توضح المعنى على مستوى جوهري يفوق مستوى الفهم الفردي.

بيد أن موضوع ايكو الأساس في نظرية سميولوجية سرعان ما يفسد هذه الفرضية. فهو يهتم بما يسميه الإشارة اللامحدودة، أي المفهوم الذي يدخل فكرة العملية في بنية المعنى. وإذا فسرنا الموضوع الأساس عند ايكو تأويلاً عاماً قلنا إن المحتوى الثقافي لعبارة معينة لا يمكن تحديده إلا على أساس العناصر التجريدية في العرف، أو المفسرات كما يسميها بيرس. وهي بدورها بحاجة إلى تحديد على أساس وحدات ثقافية أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية. فالمعنى علاقة متبادلة بين وحدة تعبير ووحدة محتوى، لا يمكن معرفة قيمته إلا عن طريق وحدة أخرى، والوحدة الأخيرة نفسها علاقة متبادلة شبيهة بالأولى، تعتمد على وحدة أخرى وهكذا دواليك. ويسمي ايكو هذه العلاقة المتبادلة بوظيفة الإشارة كي يؤكد أنها علاقة دخلت الشفرة مؤقتاً، وليست بنية ثابته. ويقول ايكو عن وظيفة الإشارة: (الإشارات نتيجة مؤقته لوضع القوانين في شفرة تقيم علاقات عابرة بين العناصر، يمكن لكل عنصر من هذه العناصر - في ظروف خاصة متصلة بالشفرة - أن يدخل في علاقات متبادلة مع غيره ويؤلف بذلك إشارة جديدة). 

هذه الصياغة ليست مجرد تكرار للفرضية البنيوية القياسية التي تقول إن المعنى وحدة ثقافية تحدد قيمتها نسبة إلى الوحدات الأخرى من مثيلاتها. فهي تنطوي أيضاً على: أولاً أن كل مؤول يرتبط إمكاناً بكل المؤولين الآخرين في نظام المعنى، فيؤلف مجموعة واسعة للكناية، ثانياً أن المعنى عملية مستمرة لإعادة تنظيم الشفرة ليس لها غلق أو شيء في العالم الخارجي تحدد به، فما أن يفترض المرء الحاجة إلى مؤول آخر، حتى تبدأ عملية للإشارة اللامحدودة، وهي الضمان الوحيد، وقد يبدو هذا تناقضاً ظاهرياً، لإقامة نظام للسميولوجيا يستطيع كبح جماح نفسه بوسائله

الخاصة.

ويعني هذا من وجهة النظر التطبيقية أن المرء لا يستطيع أن يصف الميدان الدلالي بأكمله لنص معين، فكل وحدة للمعنى يمكنها أن ترتبط بوحدات أخرى للمعنى عن طريق سلسلة لا نهاية لها من التأويلات. وسنرى أن أيكو يتراجع عن هذه النتيجة خائفاً، لأنّها تغلق الباب أمام التطبيق. أما من الناحية النظريَّة فإن الإشارات اللا محدودة تشكك في أولوية الشفرة على فعل انتاج الإشارات. فإذا لم تكن الشفرة حالة طبيعيَّة لعالم شامل للدلالة ولا هي بنية ثابتة تعتمد عليها الروابط والفروع الخاصة بكل عملية لنظام الإشارة، بل هي مغنطة قصيرة جداً للوحدات الثقافية التي تظهر نتيجة الاستعمال، فإن قيمتها بوصفها خاتمة لكل تحليل للسميولوجيا أمر يصعب البرهنة عليه، ويصعب أيضاً القول بأولوية موضوعية لهذا التحليل على الأنواع الأخرى من البحث التقليدي.

بل إننا إذا أخذنا معنى معيناً على أنه شفرة فرعية كما في أمثلة التضمن عند هيرش وجدناه بحسب هذا المنظور، لا هو بنية ثابتة ولا قانون طبيعي، بل مجرد حادثة تاريخيَّة، ظاهرة عابرة نسبياً يصعب تحديدها ووصفها على أنها بنية ثابتة. ولكن ايكو يظن أن العدد المحدود من العناصر التي لها صلة بالموضوع والعدد المحدود من قوانين الربط يجعلان التحليل الدلالي لرسالة لغوية معينة أسهل من المهمة الصعبة جداً لوصف عالمنا الدلالي الشامل؛ لذا يقترح ايكو أن سميولوجية الشفرة أمر يمكن تحديده - وإن كان التحديد جزئياً - إذا عدت الرسالة اللغويَّة هذا النظام شرطاً توضيحياً. ويقلّب هذا الاقتراح اتجاه ايكو الأول رأساً على عقب، إذ يظهر في النهاية أن الشفرة ليست أساساً للمعنى، بل مجرد وسيلة مؤقتة وضعت من أجل تفسير رسالة لغوية معينة، فهي فرضية مفيدة تهدف إلى السيطرة على المحيط الدلالي المباشر لوحدات معينة للدلالة.

إذا ظهر هذا كأنَّه وصف عادل مناسب للتأويل الأدبي، فإن ذلك ليس من باب المصادفة. فلا بدَّ أن يقوم ايكو بقلب إتجاهه وإعادة تعريف نظام إشارة الشفرة بأنّه وسيلة فعّالة في خدمة سميولوجية انتاج الإشارات وهو كذلك يخضع وصف الأعراف لدراسة المعاني الفرديَّة: (لا يمكن القيام بوصف الميادين الدلالية وفروعها إلا في أثناء دراسة حالات استدلال رسالة لغويَّة

معينة). 

إذا كان الأمر كذلك فإنَّ سمو البنيوية على المسائل الخاصة، وهدف كلر في استعاضة التأويل بصناعة القراءة يواجهان مصيراً مظلماً على ما يبدو، بل أن ايكو يحدد للتأويل دور العامل المساعد للتغير الذي ينسبه كلر إلى نهجه، فيجعل ايكو التأويل استناداً إلى اصطلاحاته النظرية، جسراً بين نظرية الاستدلال ونظرية الاتصال عنده.