التلاعب بالزمن واستشراف الآتي في {2067}

ثقافة 2023/05/06
...

  دعد ديب 


منذ البداية يذهب بنا سعد القرش في روايته "2067" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت لعام 2022، الى عالم المستقبل المجهول، عالم قادم متخيل ومنه يشرف على الماضي، ذلك الماضي القريب نسبيا بالنسبة لنا ملوحا بعنونة ثقيلة على الوجدان العربي"2067" وهي المئة عام الزمن الفارق بين ذكرى النكسة والزمن الذي يفترضه ويقحم القارئ في يقظة مباغتة مما يجعل المتلقي في حالة جلد ذات وتبكيت ضمير تستفزه وتؤرق وعيه ليدخل بنا الى الحال المفترض الذي امسى عليه واقع البلد بعد مرور نحو نصف قرن على ثورة يناير تغيير معالم المدن ومحو رمزيّة أماكنها ووصمها باسم ديكتاتور حيث منعت تسمية  "ميدان التحرير" بإشارته الكبيرة لتجمع الناس في يناير 2011 واستعيض عنه بـ "ميدان أفندينا" حيث أفندينا صفة لازمة ومرافقة لأي تسمية أخرى ويطغى على أسماء أغلب الاماكن في تصوير واقع الرعب حيث كاميرات مراقبة في كل مكان وشرائح تتبع وذباب الكتروني يطير ليلتقط أقل همسة أو كلمة تصدر عن أي كائن في واقع حصار للناس وكم أفواه غريب من نوعه وطغيان حركة البصاصين الذين يلتقطون الأنفاس في ليل المدينة 

حيث تستثمر احدث الاكتشافات العلمية في منطقتنا ضد الانسان وكرامته وحريته ويتم تجاهل كل ما ينفعه ويحسن حياته ويدفعه إلى الأمام، التطور التقني في الزمن المقبل هو مزيد من السيطرة على البشر فالبث الإذاعي عبر الهواتف النقالة يسيطر على وعي الناس ويجبرهم على سماع ما يريده أصحاب السلطة والامر والنهي،  فمن أخفى اسم ميدان التحرير يأمر بأن يختفي بالمقابل كل من ينطقه وصار ميدان أفندينا فالأجهزة النقالة نظام استخباراتي عالي الطراز حيث كل شريحة تأخذ بيانات المشترك  الكاملة وترصد حركته، والتلفون الحر مثل السلاح غير المرخص نادر واستثنائي والكائنات غير المرئية –الآليون المزودون بقماش يمنع الرؤية اخترعه أجانب، مجرمو حرب مطلوبون للعدالة الدولية يؤوونهم عندنا ويستفاد من خبرتهم في الإيقاع بالناس وكلها رموز تشير لملامح المستقبل في الزمن الآتي.

ورغم أن توظيف الزمن والتلاعب فيه واعتماده في المتن والعنونة قد فتح الباب له جورج أورويل في روايته الأكثر شهرة "1984" كما استفاد منه عبد الله مكسور في وسم روايته "2003" بزمن حاد وجارح في الذاكرة هو تاريخ احتلال العراق ولكن صاحب "المايسترو" يعيد سيرة جمعة الغضب ليصبح معادلها في الزمن المقبل متحف الغضب في محاولة استحضار الذاكرة ومقاومة محوها واستحضار الأمل عبر الحكاية الخاصة التي يغزلها بين رشيد المحامي وسونهام صاحبة متجر التحف والأنتيكات بأسلوب الراوي العليم الذي يتقصى حكاية  كائنين اجتمعا صدفة والتقيا في التوق والعاطفة والذاكرة ويستبطن أفكارهما ونواياهما فكلاهما سليل ضحية الاستبداد الماضي الذين أودى بذويهما، وعبر حوارهما يرصد الفقر والتشرد ومنبوذي القاع الاجتماعي الذي شوهت نفوسهم وامتلأت بحسد الجائع وقدرتهم على الدوس على من يوصلهم إلى الأعلى في كل مرحلة مثال سهير زوجة رشيد حيث لا يشعر فقراء الروح بالشبع فالحياة الزوجية لكل من البطلين الرئيسين بالعمل متعثرة وباردة جفت فيها المشاعر فيها فزواج سونهام رتيب بارد محافظ على واجهته الاجتماعية أما رشيد فثمرة زواجه هو طفل متعثر بالنطق كناية عن جو الصمت الذي يغلف حياته حيث لم يعد ثمة ما يقال بينهما فأزمة الطفل الصامت هي صورة لصمت الزوجين وثمرة لعجزهما عن الانسجام والتفاهم، هذه الأجواء فتحت المجال واسعًا لنمو مشاعر شفافة واستثنائية في الحياة الجانبية لبطلي العمل عبر شفافية الأسلوب والبساطة والرهافة الرقيقة التي ظللت قصة الحب بينهما، وكلما ارتقت الاحاسيس وتطورت نجح الطفل في نطق مزيد من الحروف في قاموسه الطفلي، ولا ينسى أن يعرج على فضح وتعرية الواقع الاجتماعي الذي يأكل الذكر فيه حق الأنثى الثابت في العرف والقانون والمتحيز لصالحه ومساءلة هذا الواقع رغم تعارضه مع النص القرآني بقوله تعالى "وأما اليتيم فلا تقهر" حيث اليتامى أبناء الله في أنموذج (سونهام وام ليلى وابنتها) وأيضًا تقديمه لموضوع مساءلة المقدس لماذا ترث الابنتان الثلثين ولماذا لا ترث مثل حصة الذكر وخاصة في عالم اليوم ومتغيراته، العالم الذي تعمل فيه المرأة خارج المنزل كما الرجل في واقع اختلفت ظروفه واحتياجاته ويقع عليها عبء إعالة نفسها وأسرتها في أغلب الأحيان.  

كما رصد الانحدار الاجتماعي في الوسط الفني المسنود بسلطة محدودة الفكر والخيال فلم يعد للموديل العاري مكانًا في كليات الفنون وهو الشاهد على الجمال الانساني الطبيعي إذ إن الجمال لا يتجزأ، الجمال سلوك وأناقة، وهذا التحريم انعكس في نظرة دونية ترى الجسد من زاوية واحدة لواقع غرائزي مكبوت. 

أبرز القرش واقع الاستعلاء الطبقي رغم المشاعر العالية التي جمعت بين بطلي العمل عندما يطرح فكرة الزواج وترفضها سونهام لأن الزواج مؤسسة ذات شروط تفترض التكافؤ في الحسب والنسب والإمكانيات المادية فالزواج كمؤسسة رغم خلوه من الاحاسيس ولكنه يخفي أفكارًا طبقية من البطلة يمنعها بأن ترتبط إلا بمن هو في مستواها الاجتماعي في كشف وحفر في عمق البنى النفسية لشخوصه. 

اهتمت العنونة الدالة على زمن افتراضي يقع في تاريخ متقدم للتحذير من ديستوبيا تحيط بالمستقبل بتثبيت ذاكرة ما حدثت في زمن ما لإعادة الأسئلة ومراجعة واقع الفشل حيث الأهم من الثورة نضج ظروفها وحتى لا يقتصر التقدم في الزمن على زيادة في التضييق على الشعب ورفع منسوب الخوف وهجرة المكان فالأماكن تنكمش أرواحها وتضيق عندما يهجرها الناس، والآباء الذين قضوا بأحداث انتفاضة 2011 مازال أبناؤهم يحملون جذوة الأمل بإحياء ذلك المكان الثابت كرمز ضمن تنقلات الزمن وفوضاه حتى لو كان عبر متحف الكتروني جمع فيه كل ما يومي لتلك الفترة وأحلامها يعرضون فيه أثريات ومقتنيات وذكريات وآمالا ارتفعت ذراها في تلك المرحلة.