حضور الفلسفة في المدينة

ثقافة 2023/05/06
...

حازم رعد 

إنَّ القول بحضور الفلسفة في المدينة يعطي ذات معنى حضورها في السياسة، فإن اختلاف الألفاظ لا يعني اختلاف الدلالة، فالمدينة في السياق اليوناني القديم تعني ذلك التجمع السياسي الذي يرعى شؤون الدولة ويشرف على متابعة تدبير القضاء والاقتصاد والجيش وما الى ذلك.

والذي يبدو أن شكل دولة - المدينة كان حاضراً في التاريخ قبل اللحظة اليونانية "فان بلاد الرافدين ومصر القديمة شهدت حضور هذا المساق من التجمعات السياسية -الدولة حتى قبل ان توجد الفلسفة كطريقة في التفكير؛ ولذا فإن أحد أهم العناصر المؤسسة للفلسفة هو المدينة "ولكن في اللحظة اليونانية كما سيأتي ذلك" ولكنها اي الدولة ليست على غرار الطريقة الديمقراطية مباشرة الشعب لحكم نفسه التي نشأت في اليونان والتي من افاضاتها مطارحة الافكار ونقدها والاستدلال عليها وما الى ذلك مما هو معروف في نشأة الفلسفة. 

فإن شكل الدولة في الشرق القديمة أخذ طابع الاستبداد والدكتاتورية "يحتكر السلطة فرد او قلة من الرجال ولا يشاركون الآخرين فيها" والفارق بين الشكلين للدولة هو قدرة المدينة في اليونان على انتاج معرفة وفلسفة، واما سكان ارض الرافدين فقد عرفوا شكل الدولة - المدينة "الاستبدادية" فطوال الالف الثالث قبل الميلاد كما هو ثابت في محله "الدراسات التاريخية" كانت هذه البلاد تتألف من وحدات سياسية صغيرة تعرف باسم "دول المدن" وكانت تتألف هذه الواحدات "الدولة" من المدن والاراضي التي تحيط بها والتي يستصلحها زراعياً اهل المدينة انفسهم وكانت المدينة الرئيسة اشبه بالعاصمة الادارية والتي تلتف حولها بقية المدن والقرى لتشكل 

بنية سياسية واحدة تكون هي الرئيسة، بل ويذهب فرانكفوت الى طريقة اخرى لتأليف المدن -الدولة تكون من خلال القادة الفاتحين الذين يوحدون تلك المدن ليكونوا بذلك وحدة سياسية مؤتلفة وهي الدولة القومية. 

إلا أنَّ هذا اللون من المدن - الدول، يختلف عما هو عليه عند اليونان فطريقة الحكم كانت استبدادية يحتكر فيها الملك او القائد السلطة والعنف ولا يفسح لشيء من الحريات المختلفة "التعبير والتفكير والرأي" بل ولا يترك مجالاً لاي مخلوق من ابداء رأي سياسي يخص شؤون ادارة الدولة او المدينة، فلم تنتج هذه المدن فلسفة لأنَّ الاخيرة تتقوم بمطارحة الافكار وتبادل الآراء وتداول الفرص من أجل انتاج حكم رشيد يمثل تطلعات من هو داخل المدينة من الاحرار او ممن ينطبق عليه انه مواطن له حق التصويت وابداء الاعتراض وطرح الافكار، وهذا ما عرفت به مدينة - الدولة اليونانية القديمة حيث تزامنت الديمقراطية مع نشوء الفلسفة فأسهمت من خلال طريقة الحكم من انتاج الفلسفة، وبمعنى آخر اوضح كانت الطريقة الديمقراطية لحكم المدينة اليونانية عنصرا اساسيا ومهما في نشوء الفلسفة ونموها، فتبادل الاراء السياسية والنقاش حول تطوير التجارة البحريَّة لتنمية اقتصاديات المدن يتطلب كثرة الآراء أولاً وقبولها ثانياً بل والاكثر من ذلك مناقشتها ومراجعتها وتقديم الدليل على صحتها واهميتها مما اسهم في اخلاء سبيل التفكير والتفلسف، عكس طريقة الحكم في المدينة الرافدينية التي كان الحكم قائماً فيها على قمع الاصوات وبدل الديمقراطية كانت العبودية أهم أشكال النظم، فكانت الطاعة والانقياد لاوامر الحاكم تعد الفضيلة الاهم في تلك النظم لأن الدولة هناك مبتناة على الطاعة المطلقة والخضوع الشديد للسلطة فلا عجب كما يرى فرانكفورت إذن ان نرى ان الحياة الفاضلة في ارض الرافدين كانت الحياة المطيعة، حيث يقف الفرد في المركز من دوائر متلاحقة من السلطة تحد حرية عمله، ولعل هذا ما حدا بالفيلسوف الالماني هيجل في كتابه محاضرات في تاريخ الفلسفة للقول ان [ ما هو شرقي يجب استبعاده من تاريخ الفلسفة ] لأنه اعتقد ان الفلسفة لا تنشأ الا في بيئة تكون فيها للحرية مساحة معتبرة وسانحة للممارسة السياسية الحرة، والممارسة هي التي تنشأ الاطر المعرفية لدولة المدينة وان البيئة الشرقية "الرافدينيَّة" خلاف ذلك حيث كانت تفتقر لهذه المساحة من الحرية فهي مناخ يرزح تحت نير العبودية وسيطرة الخرافة ولا يمكن على هذا الاساس للشرق امكانية انتاج فكر فلسفي معتبر.

ولكن العكس ما حصل في مجرى التاريخ وفي معرض الحديث عن مفهوم دولة المدينة تقف امامنا اقدم الشعوب التي عرفت هذا الشكل من الوحدات الاجتماعية للتدبير السياسي وادارة الموارد كانت حاضرة في بلاد الرافدين قبل التاريخ اليوناني بآلاف السنين، وقد شهدت تلك المدن أفضل أنواع الحكم وتمخضت عنها شرائع وقوانين عدت حينها من أعظم ما كتب من نماذج الحكم وسطر من تشريعات شملت العديد من القطاعات والابعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقضائية [فالفكرة او منظومة الافكار العقلانية التي يمكننا التثبت من وجودها في نص ديني او ادبي او فني او قانوني ما وبعد تجريدها من كل ما هو غير فكر محض هي مادة فلسفية شئنا ذلك ام ابينا] كما يقول الدكتور حسين الهنداوي.

فانه يمكن الانتفاع من كثير من التنقيبات التي تركها لنا الاثاريون تدلل من دون شك أن دول المدن تلك قد حكمت وكانت العدالة هي الصفة اللازمة لحكامها والحكمة تجاورهم بل ان بعض الحكماء من أمثال احيقار وغيره كانوا ندماء ومستشارين لملوك تلكم المقاطعات السياسية، فلم تكن الحكمة اذن بعيدة عنها فلكل قوم وشعب ثقافتهم وفلسفتهم وطريقتهم التي يجدونها مناسبة للحكم فيهم، وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدلل على قراءة واقعية للمشهد الراهن "في آنذاك" وانهم يمتلكون رؤية وفلسفة عما يفكرون به ويعملونه، ولمجرد النظر الى ما خلفوه لنا من آثار عظام من كتابات وملاحم وأدب وفنون وهندسة وعمران ونظام زراعي واروائي وخطط للحرب نتيقن من ذلك يقول مدني صالح في هذا الشأن [والا فمن انت الان ليقبل منك جمهور هذي الارض ان الفلسفة قد بدأت في زقورات اور واكتملت نضجاً في سابع طوابق البرج البابلي] 

ومن كل ذلك نعرف ان للفلسفة حضورا مهما في المدينة "السياسة" تارة يكون مباشرا كما هو الحال في المدينة الاثينية حيث كانت الفلسفة نتاج لها، واخرى تكون المدينة - الدولة نتاجا للفلسفة وتطور افكارها وقيامها بالتأثير فيها وصناعتها لمفاهيمها ومفرداتها.