زمن الانفلات باللغة

ثقافة 2023/05/07
...

 عادل الصويري


الشعرية الحديثة اليوم، تتوهج بفعل عالمٍ حِسِّيٍّ متشكِّلٍ وجوديّاً، ومتسرِّبٍ بانتظامٍ في البهجةِ والأسى، في الامتلاءِ والفراغ، في الفلسفةِ والغناء.

هو عالمٌ، يُذوِّبُ الشيءَ في نقيضه. 

لم يكن هذا العالمُ سوى اللغةِ، بِكُلِّ ما يضيءُ في مساحاتِها الشاسعةِ من نجومِ الدهشة، فهي سماءُ النص، وفضاؤهُ المفتوح.

أجملُ ما في عالم اللغة في الشعرية الحديثة هو الغموضُ الشفيف، حين يعلن من دون صخبٍ قطيعته مع كلِّ ناشزٍ من يقينيات المفاهيم التي لا سكن لها سوى رفوف الأتربة، وجدران الذاكرة.

هو الغموض الفنّيُّ الساحر، المحرِّضُ على المغامرة من دون إعلاناتٍ أو استعراضات.

يشتبكُ مع المشترَكِ مشترِكاً بأدقِّ تفاصيله وهذا هو سر اللغة.

إنَّ جمال المغامرةِ النصِّيَّةِ لا يكمن في تمرُّدِها على السائد الأسلوبيِّ أو الشكلِيِّ؛ بل بانحرافِها اللذيذِ عن كلِّ الطرق التي سلكها السابقون، معبِّدةً طرقَها الجديدة والخاصة، والتي لا تريد أن يسير عليها غير النار المندلعةِ بالكلامِ، والتي تأكلُ المنطقَ المُتَوَهَّمَ بلذَّةٍ استثنائية. 

يجذِبُ لَهَبُها الشاعرَ والقارئَ معاً، ينقُلُهم من هنا إلى هناك، وَيُعيدُهم من هناك إلى هنا، وهم مستمتعون بهذا الجسر التشعيريِّ الساحر، والذي يعبرونه بثمالة فريدة.

مغامرة تسكن صورة الواقع، ثم تلتقطها بفوتوغراف مليء بالخيالات المنتمية للإنسان والحياة بحميمية هائلة، تُشكِّلُ العوالمَ المرئيَّةَ والمحسوسةَ، والتي بدورها تُهَيِّءُ للتأمُّلِ البعيد عن الجهوزية المتوارثة، والقريب من الكشف عن كلِّ ما هو ناءٍ ومستغلق. 

لم تكن هذه المغامرة غائبة في السابق، لكنَّها أجَّلَت وحشيَّتَها الرائعة امتثالاً لحكمة اللغة التي لم تقبلْ تأطير المغامرة بمنطق إيديولوجي، يتصارع مع ضدِّه في حرب عالمية بائسة.

الزمن اليوم، هو زمن الانفلات باللغة، وزمن المنفلتين العارفين بأسرارِها، الخارجين من بين أشواك التكرار، والتقليد الساذج ، إلى عشب المخيلة والخصوصية، عشبِ التقصّي عن حُلُمٍ متبعثر في زوايا الحياة، فتلملمه مؤمنةً بإمكانية إيجادِهِ من عدمِ الكلام، ومنحِ رئتِهِ هواء المغامرة.

قد تسألُني: ماذا عن التلقي؟

وكيف هي ردود فعله تجاه هذا الانفلات؟ أقول لك: لا تقلق، إنَّ صفاءَ اللغةِ كفيلٌ بزحزحةِ الشائعِ من التذوِّقِ، ونقلِهِ من عمومه الرتيبِ إلى لحظته المتفردة.

سيبدو التلقّي عارياً للوهلةِ الأولى، لكن، وبعد وقت قصير؛ سيكتشف أنَّ عريَهُ الجديد هذا غطاء شفيف وناعم، يختلف كُلِّيّاً عن ذلك الغطاء الخشن بكلِّ ما هو مُشاع ومستهلك 

وجاهز. 

غطاء غامض لا يُرى، لكنه جميلٌ في وضوحه، حين يلامس جسد التلقي بهدوء، ويمارس مهمته في اختراق المشاعر والحواس، التي تبدو مستعدة للتعاطي مع هذا الجديد، مقتنعةً أنه سيأخذُها في رحلة أخرى، غير تلك الرحلات المكررة بلا دليل سياحي.

وحتى لو وُجِد هذا الدليل؛ فسيكون مكدَّساً بدهونِ الألفاظِ والضرورات المملة. 

التلقي الجديد أيُّها السائل تَلَقٍّ مطمئنٌّ وقلقٌ في نفس اللحظة، يُراقبُ انهدامَ الجدرانِ القديمة في ذاكرةِ التذوّق، ويبتسمُ للمكتبة الذوقية الجديدة المُشادةِ عليها.