دور الثقافة في التحولات الحياتيَّة مسرحيَّاً

ثقافة 2023/05/08
...

  د. علاء كريم


يعد فن المسرح من الفنون المهمة والمؤثرة في الحياة الاجتماعية، وذلك لما يمتلكه من حفريات فكرية ومعرفية تلامس واقع الفرد بجوانب متعددة منها نفسية وأخرى ثقافية. فضلاً عن أنه يعمل على تمثيل الواقع، وتجسيد كل ما يحصل به، واستخدام مساحته كأداة للاتصال بالمجتمعات لتثقيفها وتهذيبها، وذلك لأن المسرح يمثل جميع القضايا التي تحصل في المجتمع بصورة واضحة أمام الجميع، إذن، هل هناك دور للمسرح في الحياة ثقافياً؟ 

الثقافة بشكل عام لا تعتمد على القراءة والكتابة فقط، بل هي سلوك اجتماعي ومعيار موجود تستند إليه المجتمعات البشرية، عبر مفهوم يشمل شكل الظواهر التي تنتقل بوساطة القراءات المختلفة، والممارسات والأشكال التعبيرية الفنية، منها: المسرح والتشكيل والموسيقى والرقص، والثقافية مثل، استخدام الأدوات الحياتية كـ «المأوى» والتعامل مع الآخرين، فضلا عن طبيعة البيئة ونوع الأزياء والتطور التقني. وفي المسرح هناك عوامل تستند إلى رؤى ثقافية يمكن لها بناء عرض مسرحي متكامل العناصر، وهي خشبة المسرح والممثلين والمؤثرات الصوتية والضوئية والأزياء، بما فيهم الجمهور. من ثم يمكن تعزيز التواصل لهذه التجارب المسرحية عبر نشأة الدين وطقوسه عند اليونان القدماء، وعبادة الآلهة.كانت المسرحيات البدائية تمثل في الريف موسم جني المحاصيل، ثم انتقل المسرح من الريف إلى الحضر، ليتطور ويتم فيه التأليف لكبار شعراء المسرحيات التي كانت تقيم لها مهرجانات سنوية. وبفترات زمنية متقدمة أخذ المسرح ينفصل عن الدين ليصبح فناً مستقلاً يعالج مشكلات الحياة والمجتمع، وهذا يمثل جانبا ثقافيا لما تتضمنه الحياة اليومية من تحولات وصراعات، ومن ثم تعالج عبر الرؤى والقراءات النقدية التي تؤشر على العيوب ليتم تجاوزها.وفي القرن السادس عشر بعد هجرة حماية التراث اليوناني الروماني إلى إيطاليا وفرنسا وغيرهما من بلاد أوروبا، ظهرت حركة عرفت بحركة النهضة الحديثة، فأعيد بوساطتها نشر التراث القديم، ومن ثم ترجمته إلى اللغات الأوروبية الحديثة بما في ذلك الأدب التمثيلي، لتتخلى أوروبا عن حضارة القرون الوسطى وفنونها، التي تحاكي الفنون التي تستلهم الثقافات الرومانية واليونانية القديمة، ومنها فن المسرح الذي أخذ يستمد موضوعاته وأصوله من التاريخ والأساطير القديمة وهذا هو ما نسميه الآن بالأدب الكلاسيكي المستوحى من القديم، فضلاً عن تسميته بالأدب الإنساني، لأنه يعالج مشكلات الإنسان في ذاته ويفسر سلوكه بحقائق النفس الإنسانية في ذاتها، بما فيها من غرائز ومشاعر وعواطف وانفعالات. ورغم تطور المسرح، وتعدد فنونه، لكنه تعرض لهجوم من بعض كبار الفلاسفة والمفكرين، مثل: (جان جاك روسو) الذي ثار بشكل عنيف عندما علم أن مدينة جنيف التي كان يقيم بها في القرن الثامن عشر، قد اعتزمت أن تبني مسرحاً، فوجه خطاباً إلى أصحاب هذه الفكرة، هاجم فيه المسرح، وأخذ يُسفّه الرأي القائل بأن المسرح مكان ثقافة وتهذيب، وقال: إن المتفرج لا يذهب إلى المسرح بنية التثقيف والتهذيب، فلن يستفيد الجمهور من المسرح ثقافةً ولا تهذيباً، وهو لا يذهب إليه إلا التماساً للتسلية والترويح، وهرباً من التفكير الجدي في مشكلات حياته أو حياة مجتمعه. وبالتي يقصد أن المسرح لا يهذب الأخلاق، بل يسخر منها ويجعلها أضحوكة للجميع.

وفي حقيقة الأمر هناك من عمل بشكل مخالف لهذا الرأي، وأخذ يؤكد بأن المسرح استطاع أن يُسهم في تطوير الحياة، وايضاً في جوانب مختلفة على الصعيد السياسي، والانفتاح على مجالات الحياة الأخرى، ومنها الأخلاقية عن طريق الكشف والنقد والتوجيه. وهذا ما حدث في عصر النهضة، إذ تم طرح مجموعة آراء، منها، أن يستقل فن التمثيل عن غيره من الفنون كالموسيقى والرقص والغناء، ومن ثم عن الجوقة، وهكذا يتم العمل وفق بنية متكاملة للعرض المسرحي، لأنه يعد مرآة للحياة، فقد كان من الطبيعي أن يتطور فن المسرح ومنه التمثيل مع تطور الحياة عبر التحولات الزمنية، كما في القرن الثامن عشر، والذي يعد زمن التفكير والنقد الفلسفي الذي انتقد الأدب التمثيلي، واستنكر تقسيمه إلى فنَّين لا ثالث لهما: فن خاص بالنبلاء وهو التراجيديا، وفن خاص بعامة الشعب وهو الكوميديا، وتمت المطالبة بخلق نوع جديد من المسرحيات تقدم مشكلات الطبقة الجديدة الناهضة والمحفزة للثورة، وهي الطبقة الوسطى المعروفة بالبورجوازية، والمتمثلة بالتجار والصناع والموظفين ورجال الفكر والفن في المدن، ليتم من خلالها معالجة الاشكاليات التي تنتج في هذا الخليط المجتمعي.

تبين هذه القراءة المكثفة التحولات الموضوعية التي تلامس التطور الفني والخلق الإبداعي في المسرح، لأنه يمثل ثقافة شعبية تعتمد صناعة الوعي واكتشاف التجارب، عبر الافعال التنموية المؤثرة في حياة الأفراد ليتخلصوا من القيود الحياتية ويتحرروا من الخوف والإبادة الفكرية عبر القراءات الفنية الابداعية، ومنها المسرح لأهميته في تنمية الذائقة وتفعيل كل القيم الجمالية والمفاهيم التنويرية التي قد لا نراها بالعين المجردة، بل نشعر بها عند تجسيد هذه الاحداث مشهدياً في المسرح، لأجل أن تخرج المجتمعات من سباتها، وتسعى للحفر من أجل حياة تواكب ما وصل اليه العالم. ومن ثم تعد كل التطورات والمعالجات ثقافة متقدمة، تعكس المستوى المعرفي للشعوب التي تقتضي البحث عن خصوصية لبيئتها وحضارتها، بعيداً عن استنساخ تجارب الآخرين والتأثر بهم، ليؤدي ذلك أخيراً الى ظهور ثقافات جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل

الإشكاليات.