القراءة العربيَّة للعرض المسرحيّ العراقي

ثقافة 2023/05/09
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب

لا تزال وحتى وقت قريب الصفة المائزة لعروض المسرح العراقي المعاصر المشاركة في المهرجانات العربية والدولية هي سيادة الخطاب بوصفه المنتج النهائي لتلاقح أفكار المؤلف الدرامي والمخرج والممثل والسينوغراف، والذي عكس ولفترات طويلة المشكلات العضوية الاساسية في جسد المجتمع العراقي، وهي بالضرورة هموم وعلل إنسانيَّة عامة قد تقع في الصين وكندا وفرنسا وغيرها من البلدان، وما فواعل مؤلفينا الدراميين وما حصدوه من جوائز وثناءات مستمرة في المهرجانات من أمثال عادل كاظم ويوسف الصائغ وفلاح شاكر وخزعل الماجدي وعلي عبد النبي الزيدي ومثال غازي وغيرهم.

إلا برهانا ساطعا على ما نسوق من قول، مما حدا بالشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وهو يشاهد مسرحية (سيدرا) تأليف خزعل الماجدي، وإخراج الراحل فاضل خليل، في إحدى دورات مهرجان قرطاج الدولي في تونس بالقول (إن المسرح العراقي بخطابه الفكري وشعريته الساحرة يتفوق على جميع مسارح الناطقين بالعربية) وهي كلمة تصدر من لدن عليم بفنون الادب والشعر، وشهادة كبيرة تشهد برصانة مسرحنا نصا وعرضا.. إلا أننا في الفترة الأخيرة نلحظ ان هنالك ميلا واضحا من قبل المهرجانات العربية في ترشيح واستقدام عروض مسرحية عراقية تنتمي لهوامش المسرح وتخومه، أعني عروض الكريوغراف والدراما دانس والرقص التعبيري والفنون الادائيَّة الموازية لفن المسرح والتي ينتفي فيها الحوار الدرامي واللغة المنطوقة والشخصيات والصراع الدرامي المعروف، وكأنّنا بلاد من كوكب آخر لا تتكلم العربية إنما تحكي بلغة أخرى لغة خرساء إلا ما تجود به لغة الجسد والاشارة من دلالات.. أي التلميح لا التصريح.. وأفسر هذا الاقصاء المقصود للعروض العراقية التي تنتمي لشكل المسرح الحقيقي هو خوف ووجل وارتياب القيمين على تلك المهرجانات من اللجان الفاحصة والمقيمة للعروض من الخطاب الآتي من بلاد ما بين النهرين بوصفه خطابا مؤدلجا حسب زعمهم، ولكنه في الحقيقة خطاب حر يستطيع عكس المشكلات، والعلل الاجتماعية العضوية الداخلية، وقضايا المنطقة بأسرها من منظور جمالي، وكذلك لأن هامش الحرية النسبي المتاح لدينا في العمل الفني والثقافي أكبر بكثير مما هو في بعض البلدان العربية الأخرى، وربما أيضا لأن النص المحلي يحتوي شكلا مشاكسا للنص التقليدي لتضمينه محمولات ناقدة لسلطات الدين والسياسة والاعراف البالية والخرافات والجنس. 

وهذا ما شهدناه في الفترة الاخيرة بنصوص علي عبد النبي الزيدي في مسرحية (يارب) وكريم شغيدل في مسرحية (احلام كارتون) ومسرحية (فجر اليوم السادس) لمثال غازي ومسرحية (فلانه) لهوشنك وزيري ومسرحيتي (حظر تجوال) و(في قلب الحدث) لـ (مهند هادي)، وما تركته من سجالات وحجاج متواصل على موائد الجلسات النقديَّة ما بعد العرض المسرحي أو اثناءه من ردود أفعال التلقي الحارة والساخنة.. في الحقيقة كانت نصوصا تجديديَّة مبتكرة على مستوى الشكل وفيها احتجاج ورفض كبير للوقائع وفضحها أمام الرأي العام على مستوى المضامين الدرامية وإدانة واسعة لقضايا الإرهاب والاقصاء السياسي والتهجير القسري، وإقصاء المرأة وهنا يمكن أن نحدد بلا مواربة أن الآخر يفكر في مخرجاتنا الفنية الابداعية من منطلقات دوغمائية واحدية ضيقة وليست جمالية وانسانية عامة فذهب لاستضافة واستقدام هوامش المسرح القصيَّة، وليس مراكزها والأمر المضمر الآخر تقديم صورة مواربة عن المسرح العراقي اليوم أمام جمهور العالم بوصفه مسرحا متراجعا من خلال ما يقدم من عروض جسدانيّة واشكال كريوغرافيّة متأثرة بهوامش المسرح في الغرب الاوروبي وامريكا، وهم لا يعلمون بأن هذه البلدان المتقدمة قد استنفدت كل فنون وأشكال المسرح التقليدي وتلاوينه واخذت تجرب ما شاء لها من التجريب. 

هذه العروض في حقيقة الأمر لا تخلو من جماليات وابداعات فنيّة، لكنها في شكلها العام لا تعبر عن الهوية الوطنية والقومية للامة العراقية وفلكلورها واساطيرها التي تنفتح على الاسئلة الكبرى معبرة عنها باللغة والحوار والسرد والحكاية وفعل التدوين وأثره الذي لا يمحو نصوصاً وعروضاً بوصفها أطراسا عصيَّة على المحو والتهميش من ذاكرة المتلقي المحلي والعربي تشي بفاعليتها وديناميكيتها واستشرافها العابر للزمكان وما تتكئ عليه من قيم فكريّة وجماليّة وفلسفيّة متقدمة تضع الصانع الدرامي العراقي بقضاياه الجوهريّة في مقدمة الركب المسرحي دائما وأبداً.

ونأمل أيضا من مؤسساتنا الثقافيّة المسرحيّة أن ترشّح عروضا تمثل الوجه الناصع والحقيقي لثقافتنا الوطنيّة وحداثتنا المسرحيّة، ويتم دعمها وتسهيل مهامها في السفر والايفاد، لا سيما ونحن على اعتاب انعقاد مهرجانات عربية ودولية مهمة كالقاهرة التجريبي وقرطاج ومهرجان الهيئة العربية للمسرح المزمع اقامته في 

بغداد.