في رحيل الكاتب والمترجم الكردي أحمد محمد إسماعيل

ثقافة 2023/05/10
...

  هوشنك وزيري 

   بهدوء يليق به وحده، رحل الكاتب والمترجم الكردي أحمد محمد إسماعيل ظهيرة يوم 26 نيسان في بيته في أربيل عن عمر ناهز 75 عاماً، قضى الأغلب الأعم من هذه العقود السبعة والنيف في عزلته المكتظة بالقراءة والتأليف والترجمة عن اللغتين التركية والعربية.ولد أحمد محمد إسماعيل في أواخر الأربعينيات في إحدى القرى الصغيرة "حفته غار" في منطقة كرميان المعروفة بقسوة وعناد طبيعتها. ولمنطقة كرميان وقراها وناسها، لغة وروح وطبيعة، حضور بهي وساطع في قصصه القصيرة، كما في روايته الوحيدة "الربيع الأسود،" التي تتمحور كلياً حول فظاعة الجرائم البشرية التي ارتكبها نظام صدام خلال عمليات الأنفال في تلك المنطقة وتحديداً في قرى منطقة الداودية التي تقع شرقاً من طوز خورماتو.  

أكمل دراسته الابتدائية في كرميان، إذ أشار في أحد لقاءاته مع قناة تلفزيونية كردية بأن أحد المعلمين الذين درسوه في تلك المرحلة كان الكاتب والإعلامي الراحل إبراهيم الداقوقي. وعن خوضه المجال الأدبي وتكوين شعوره القومي الكردي، أشار الفقيد في المقابلة ذاتها إلى كاتبين كرديين وهما مارف (معروف) خزندار وجمال نَبَز وتأثيرهما الكبير عليه وعلى شباب آخرين في المنطقة عموماً وفي كركوك خصوصاً، "كان جمال نبز يَحثنا نحن الشباب في كركوك على القراءة باللغة الكردية". كان ذلك في الستينيات من القرن الماضي تزامناً مع بدايات مجيء حزب البعث القومي العربي وهيمنته الشمولية ومحاولاته نشر التعريب في مدينة كركوك. 

وهكذا بدأ بقراءة الكتب والمجلات الكردية مثل مجلة "زين" وهي المجلة الأدبية التي كانت تصدر آنذاك في بغداد. في تلك الأثناء، وفي هذه الأجواء، خاض تجاربه الأولى في كتابة القصص. 

نشر كتابه الأول والذي كان عبارة عن مجموعة قصصية بعنوان "الشجرة التي أمام بيتنا" حين كان في العشرينيات من عمره في عام 1969. لاحقاً اعتبر الفقيد هذا الكتاب بمثابة "مجازفة ومغامرة" لأسباب كثير أهمها أن "لغتي الكردية لم تكن مثالية حينها" وأيضاً "لم تكن لي أية تجربة قصصية قبل ذلك".  

للروائي الكردي هيوا قادر، وهو من جيل لاحق، حكايته مع هذا الكتاب. ففي مقال نشره على صفحته الخاصة على موقع الفيسبوك يروي بأنه حين كان طفلاً، كان الذهول يصيبه كلما قرأ عنوان الكتاب الذي كان موضوعاً في واجهة إحدى المكتبات في سوق السراي في السليمانية.

ويشير إلى أنه كلما مر من أمام الواجهة شعر "بارتفاع قدمي من على الأرض،" وكلما قرأ العنوان "كان خيالي يثمر أشجاراً خضراء. فالعنوان كان سحراً يملأ صدري بالفراشات". ولشدة ما أراد الكتاب، اضطر ذلك الطفل إلى أن يفتح درج النقود في دكان أبيه والذي كان قد ذهب إلى صلاة العصر في الجامع المجاور، ويسرق قطعة من "100 فلس حديدية وقطعتين من 25 فلساً" ليشتري بها الكتاب. خطيئته في سرقة الكتاب جعلته يشعر بأنه "قمر صغير، نصفي مضاء ونصفي الآخر معتم".

قبل أن ألتقي به شخصياً، تعرفتُ على أحمد إسماعيل من خلال شخصيات قصصه، وتحديداً شخصية رحمن. كان ذلك في أواخر الثمانينيات حين كنت طالباً في كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد وكان هو معلماً في مدينة طوز خورماتو. ورحمن هو بطل قصة "الثمالة" التي كتبها في نهايات 1988 بعد مجزرة حلبجة وتزامناً مع استمرار عمليات الأنفال ضد الكرد، والمنشورة في مجموعته القصصية بعنوان "الأحلام الغريبة". 

فرغم أن الكثير من شخصياته تتراوح بين الانكسار والعناد والحلم بالطيران، إلا أن شخصية رحمن تختلف قليلاً رغم انكسارها وهزيمتها الواضحة. فوظيفة رحمن الأساسية، الذي اضطرته الظروف إلى أن يعمل في حانة، هي أن يجلس على كرسي حتى يغادر الجميع. وكل ما يفعله هو أنه يصيخ السمع إلى الزبائن فيصاب بالدهشة ويفرح وكأنه يعيد اكتشاف نفسه حين يكتشف بأن الآخرين يدركون وجوده وهمومه. لكن لن يستمر هذا الاندهاش طويلاً، فسرعان ما تصيب رحمن الخيبة أثناء مغادرة هؤلاء الزبائن للمكان. 

فعلى الطاولة القريبة من كرسي رحمن يجلس عدد من الأشخاص يشربون العرق ويتحدثون فيما بينهم. يسترق رحمن السمع فينذهل بما يسمع "وكأنهم يتحدثون عنا! لكن يا رحمن، كيف يعرف هؤلاء بهمومك وقضاياك؟" يتساءل رحمن وهو كردي مهمش ومقموع يعيش على حافة الوجود "لكن لماذا يتحدثون عنا؟" يدني رحمن كرسيه قليلاً ليستمع جيداً ويتفاجأ "وكأنهم يعرفون كل شيء!" فأحبهم رحمن من صميم قلبه، فهناك من يعرف به وبمآسيه رغم تهميشه القاسي. لكن هذه الدهشة والفرح والحب لن تدوم كثيراً. فحين انتهت الجماعة التي كانت تتحدث عن رحمن وأمثال رحمن من شرب العرق، غادروا المكان وهم يقهقهون عالياً. مرّوا من أمام كرسيه دون حتى أن يلتفتوا إليه وهو الجالس بقربهم. أصيب رحمن بخيبة وهو يقول لنفسه "الناس تتذكرني وتتذكر أمثالي فقط حين يشربون العرق ويثملون". 

توطدت معرفتي بالفقيد في نهاية التسعينيات. آنذاك كنت ما زال في دمشق حين سمعت بأن قصتي "الساردون السبعة الصغار" التي نشرت في مجلة المدى في أواسط التسعينيات قد ترجمت إلى اللغة الكردية ونُشرت في مجلة "نووسه‌ری كورد" أو "الكاتب الكردي". لاحقاً، شعرت بالزهو حين مسكت المجلة بين يدي وأنا أقرأ اسم محمد أحمد إسماعيل كمترجم

لقصتي.   

انتقل الفقيد إلى أربيل بعد 2003 حيث كان يقضي معظم أوقاته بين بيته وبين مقهى "باريستا" الذي كان يرتاده في عنكاوا. كنت أراه بين حين وآخر منزوياً في ركنه في المقهى وهو منشغل بالكتابة أو بالقراءة. يدعوني بضحكته الواسعة التي تُغير من ملامحه وتعيده طفلاً من كرميان، إلى شرب الشاي معه. يبدأ الحديث أولا بالحياة وتفاصيلها ويبوح لي ببعض الأسرار وهو يضحك بمكر. ثم يتحدث عن بعض من سفراته وحبه للمغامرة وكأنه طفل ما زال أمامه الكثير ليكتشفه. أما عن مشاريعه المستقبلية في الترجمة فكان دائماً ينهي حديثه بـ "لدي الكثير الكثير لأنجزه". 

آخر مرة رأيته فيها كانت في نهاية شهر كانون الثاني الماضي قبل دخوله المستشفى بحوالي شهر. قال لي "كنت مريضاً خلال الأيام الماضية".  قلتُ له "سلامتك يا ماموستا". قال "رأيت الموت يطل برأسه من الباب ويحدق في عيني". قاطعته دون أن يتوقف عن الحديث "بعدك شباب لا تتحدث في الموت". استمر في الحديث متجاهلاً تعليقي "قلت للموت ما زال هناك متسع من الوقت، فلدي مشاريعي وكتاباتي غير المنجزة" ثم أخذ نفساً عميقاً من سيجارته ونظر إليّ وهو يبتسم مع حزن واضح في عينيه "لكن الموت لا يسمع!". 

بعد ذلك الحديث، سمعت بأن كل شيء حدث وتهاوى نحو الموت بسرعة مفزعة. ولم يكن هناك، لدى الفقيد، متسع من الوقت والجدوى ليجادل الموت مرة أخرى، فعلى عكس رحمن تماماً، الموت لا يسمع، لا يسمع مطلقاً. 

غالباً ما كان أحمد محمد إسماعيل يقضي عزلته في عالمه الخاص منشغلاً بالقراءة والكتابة والترجمة، لكن عزلته كانت حاشدة بشخصياته التي كانت رغم انكسارها تحلم بالطيران، ومكتظة بمؤلفين كان يحاورهم باستمرار من أمثال يشار كمال ويلماز كوناي وعزيز نسين وآخرين كثر ترجمهم إلى الكردية. وفي تجواله الدائم بين التأليف والترجمة، أنتج الفقيد أكثر من خمسين كتاباً. كما وله عدد من الكتب المترجمة تحت الطبع ستصدر قريباً عن دار (سَرْدَم) في السليمانية. فطوبى للغة الكردية بهكذا كاتب ومترجم الذي كان يبتسم دوماً بدهاء طفل كرمياني عنيد.