الرواية الاستعماريَّة

ثقافة 2023/05/10
...

  خالد زيادة*

        اختار نزار عبد الستار مرحلة شبه مجهولة من التاريخ الاستعماري يتعلق بالتنافس بين شركتين تجاريتين الأولى هولندية والثانية بريطانية. وكان لتلك الثانية دور بارز خلال أكثر من مئتي وخمسين سنة في احتكار التجارة في الهند والصين لصالح المملكة المتحدة، والتي حازت على تفويض ملكي باحتكار التجارة مع هذه البلاد الواسعة من القارة الآسيوية مع تقديم الدعم السياسي والعسكري.

وقد استمرت الشركة في عملها من سنة 1600 إلى سنة 1858 حين اندلع عصيان مدني في الهند. وما لم يقله مؤلف الرواية أن بريطانيا العظمى التي قامت بالثورة على الملكية المطلقة مع كروميل في 1649، وأنجبت كبار الفلاسفة الليبراليين من جون لوك وديفيد هيوم وصولاً إلى جون ستيوارت ملّ، تركت لتجارها أن يخوضوا أسوء الحروب اجرامًا للسيطرة على التجارة، واستغلال الشعوب بما في ذلك ترويج الأفيون وفرض بيعه في الصين، فقط من أجل الربح.

رواية نزار عبد الستار كما يمكن أن نقرأها ليست معنية بهذا التاريخ، على الأقل من حيث بنيتها الروائية. ولا يريد من خلالها أن يوجه رسائل سياسية. فهو روائي محترف تستهويه هذه المرحلة من الزمن الذي تختلط فيه الجنسيات والنساء والرجال في عالم تتصادم فيه العادات وتتنوع فيه التقاليد والألوان والأديان. وكل ذلك بلغة مشغولة كلمة كلمة فكأنه ينسج الرواية من خيوط لغوية وقاموس من المفردات. إن قوة الرواية الأدميرال لا يحب الشاي، في لغتها التي يمكن للقارئ أن يقدر الجهد الذي بذله المؤلف في صياغتها. وفي حبكتها التي تدور حول شخصية الأدميرال الذي سنكشف نسبه، وتتنوع هوياته في زمن الإعصار الامبريالي.

وُلد عزيز لانكستر لأب من البصرة وأم هندية في حوض للسفن في لندن، إلا أن الأب العربي سيفقد هويته وشخصيته لأن السلطات البريطانية واعتمادًا على لون بشرته وطنته مع الأفارقة. وفي الحجر الصحي ستتزوجه الممرضة الهندية، هذا الزواج الذي سيتيح له أن يستعيد عمله وحريته. ولكنه بعد ولادة ابنه عزيز بشهرين سيوجد مقتولاً. ولن تتأخر الأم الهندية عن الوفاة، فينشأ الطفل في ملجأ للأيتام حيث تلفت شخصيته المبكرة، نظر مدير الحسابات في شركة الهند ويتبناه ويمنحه اسمه، فينشأ بين كبار موظفي الشركة ويرسل إلى الهند حيث تظهر مواهبه القيادية.

تدور الرواية حول عزيز لانكستر الذي يستغني عن الحرف الأول من اسمه فيصبح الأدميرال زيز لانكستر، وتتحول الرواية، إلى رصد يومياته وإهانته المتواصلة لخادمته  وعاهرته الهولندية ماريكا التي تصبح زوجته والقناصل وغبار البصرة وتخيلها الممل الخ.

إن عقدة الرواية وصول خمسة صناديق من الشاي إلى ميناء البصرة التي هي مسرح الرواية.. إن زيز لانكستر الذي استخدم كل الأساليب والجرائم لترويج الأفيون في الصين، سيستخدم كل الوسائل الممكنة لترويج الشاي انطلاقًا من البصرة، أمام منافسة القهوة التي يتولى ترويجها الهولنديون. في هذا الوقت سيكتشف أصوله العربية وكذلك أصول والدته الهندية وحين يلتقي عمه كرم آل السفان، يسأله عن ديانته فيقول: أن والده بالتبني تشارلز لانكستر أراد أن يجعله بروتستانتيًا وحين يسأله عمه هل تريد أن تصبح مسلمًا يجب: ماذا سيفيد الله إن كنت بروتستانتيًا أو مسلمًا؟ ينجح الأدميرال في ترويج الشاي في البصرة مستخدمًا كل الوسائل، الدعاية والكذب والقتل، واستخدام البدو وأبناء عشيرته. 

لا يمكن إلا أننا نحمل الرواية أبعادًا تاريخية وسياسية بسبب خلفيتها، بالرغم من أنها تتجنب الخوض في السجالات السياسية أو الايحاءات التي تتصل بذلك. لكن الروائي يجعل من الأسطر الأخيرة من الرواية حاملة للعبرة. إذ يدخل الصيني شينغ على الأدميرال ويصوّب المسدس على جبينه، ويقول: هذا لأجل الصينيين الذين قتلهم بالأفيون سيدي الأدميرال. وهذه هي اللحظة الوحيدة في الرواية التي يمكن أن تنسب إليها الانتقام على ما اقترفه في حياته.

إلا أننا يمكننا أن نفهم العقدة الرئيسية التي تدور حولها الرواية في التعقيد الذي يحيط بوضع الأدميرال، ليس لأنه ولد لعربي من البصرة في حوض للسفن في لندن، وخدم التاج البريطاني بالكاد تعترف به بريطانيا، وهذا ما يعبّر عنه القنصل الذي خاطب عزيز، قائلاً: سيدي الأدميرال لقد قتلت العديد من الإنكليز، وفي الوقت نفسه قدمت خدمات جليلة للتاج البريطاني. جلالة الملكة استخدمت صلاحياتها في زمن الحرب، وعاقبتك بالنفي، ونجّتك من المحكمة العسكرية. وإذا رجعت إلى لندن، فسيلقي القبض عليك، وتحاكم بتهمة القتل وستشنق. ولن تستطيع جلالتها انقاذك من القانون البريطاني العادل. وما يمكن أن نفهمه من الرواية أن القانون البريطاني في بريطانيا غيره في أرجاء العالم. وإن ما تسمح به بريطانيا في الخارج غير ما يطبق داخلها. 

يمكن أن نقرأ الرواية من خلال ايحاءاتها، ورمزيتها، إذ تظهر لنا جانبًا من ذلك العالم الذي تسيطر عليه القوى الاستعمارية، حيث لا يملك الوالي وحاكم البصرة العثمانيين أي شيء سوى أن يكونا جزأين من هذا العالم. ولكن أميل إلى قراءة الرواية باعتبارها رواية واقعية، هي التعبير عن تلك المرحلة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.


*كاتب ومفكر وباحث من لبنان