مصادر الإلهام الغامضة

ثقافة 2023/05/10
...

  وارد بدر السالم


يولد الوحي في السماء، ويُبلغ إشارته الى الأرضي. والفاصلة بين الأرضي والسماوي هي زمنية بطبيعة الحال. والوحي ديني في مفهومه المتعارف عليه. وفي اللغة يتجرد هذا المفهوم الى حد ما؛ فهو الإشاري، والإيمائي، والإعلامي الخفي.

الصوفية العرفانيون يرددون "الوحا. الوحا" لاستجلاب الوحي، الإشاري، الإيمائي. العاجل والسريع. وقد درجنا في الكتابة على انتظار الوحي الذي نسميه الإلهام، فطرياً وغريزياً وإشارياً. وفي الحالات كلها فأنه يقع في منطقة غامضة من العقل. تلك المنطقة الفاصلة بين السماوي والأرضي، التي تحدد إمكانية الاستجابة لفكرة "النزول" إذ أن الإنسان يخضع الى قوى داخلية غير منظورة، وربما لا تكون محسوسة بالقدر الكافي للشعور بها.

الإلهام الإبداعي جزء من الغموض الذي يحيط بالكثيرين ممن امتهنوا الكتابة؛ فلا مصدر له ولا مرجعية لكينونته المفاجئة. وقد انشغل الباحثون النفسيون والمتصوفة عن هذا السر الكامن وراءه، فلم يصلوا الى شيء يمكن الوثوق به، وعدّهُ الكثيرون من أنه سر إلهي. وأن القوى الغيبية التي تفاجئ المرء، هي من مزايا الذين يتجلّون أو يكتبون، وحتى نظريات الإلهام الإبداعي في الأدب والفن والعلم عجزت عن توصيف هذه الميزة التي يمتلكها البعض. حتى أن عالماً مثل ستيفن هوكينج، وهو المعني بالفيزياء العملية يؤكد بتجربته العميقة: لا نعرف من أين يأتي الإلهام. وأيضاً البيرت اينشتاين مكتشف النظرية النسبية بقي أسير الالتماعات والشوارد الذهنية، وهي أقرب الى الخيال من الواقع. لكنه كما هو معروف كان يتمتع بثقافة علمية بارزة. على أن شعراء الجاهلية كانوا يستعينون بشياطين الشعر للتلقين والإلهام في مكان معروف اسمه" وادي عبقر" 

لافظ بن حافظ شيطان إمرؤ القيس الشعري، وللنابغة الذبياني شيطانه المسمى هاذر بن ماهر، وعمرو هو شيطان الفرزدق. وهذا يشير إلى أن "الوسوسة" جزء من عمل الوحي، لكنه "شيطاني" فالجاهليون قبل الإسلام لم يكونوا يؤمنون بالوحي السماوي، لذلك فأن الشيطان الشعري كان هو الذي يقود الى القصيدة الجاهلية الشعرية، وهذه معرفتهم بالإلهام الإشاري الغامض.

الإغريق يستعينون بربات الإلهام - ربات الحُسن "الميوزات" - البنات التسع لزيوس- وكل إلهة تختص بجنس سردي معين، كأورانيا الفلكية وكليو التاريخية وإيراتو الغزلية. ومهما تكن الشياطين الملهمة المتخصصة بالفن والعلوم والآداب؛ فقد يكون هذا رمزياً؛ إلا أنها لا تعوّض موهبة الشاعر وحدسه ولحظة انبعاث ومضته الشعرية واللغوية. واذا كان الشعراء الجاهليون ينضوون تحت شيطان الشعر؛ فأن ابن عربي في فتوحاته المكية يحلق في السماء " والله ما كتبت منه حرفًا إلا عن إملاء إلهي" وهذه الإحالة السماوية غالباً ما تكون إعجازية تتشبه بالوحي الغامض الذي يثير الاستبصار العميق عند البعض، حتى أن معظم المعاجم العربية وهي تعرّف الإلهام الشعري ترى بأنه سمو بالذهن والروح يسبق التأليف الخلّاق، يحس الشاعر أثناءه أنه يتلقى عوناً من مصدر علوي (كما يرد في معجم المعاني الجامع) وهذا العلو السماوي هو الذي يميز المبدعين عن غيرهم من الناس. في حين يرى علي الوردي من أن الإلهام حاسة داخلية خارقة، لا وجوداً مادياً لها. لكنها تختصر الحواس الشعورية بطريقة غامضة جداً، وتخلق عوالمها المتخيلة بشكل من الأشكال. أما علم النفس فيسميها "ميسّرات الإبداع" لتسهيل ولادة الخلق الإبداعي. فالوحي هو الذي يقود عملية المخاض الأدبي بطريقة أشبه ما تكون إعجازية.

 ابن سينا يرى الحلول الإلهامية في منامه بعد أن يتوضأ ويخلد الى النوم. فهو سماوي في نزعته الكتابية ولا يصدّق أن شياطين الشعر تأتيه من الأرض ومن الواقع الذي  يدور حوله. فيما يرى البعض من أن الإلهام هو "العين الثالثة" السرية التي ترى ما لا تراه العينان البشريتان.

وفي التوصيفات كلها لا يخضع الإبداع الى معايير منتظمة واضحة، فالموهبة مَلَكَة مدرّبة بالقراءة والاستبصار العميق الى ما حولها، والإلهام قنّاص استثنائي لكل القوى الداخلية التي تمور في الإنسان، ولا يمكنها الخروج من دونه وهو يتشكل في الخلايا الدماغية من دون أن يكون له وجود مادي محدد. وفي هذا الصدد يقول أهل الطب من أن الدماغ في الإنسان يعمل بطاقة استثنائية غير مفهومة كلياً، فهو مخزن شخصي يلتقط ما حوله في خلايا مخية دقيقة متقنة ضد النسيان، بوصفه " ذاكرة " عابرة له، لذلك نجد الكتابات متنوعة عند هذا وذاك من الكتّاب. تأخذ من الماضي البعيد ما يشكّل عندها قدحة نارية باتجاه الكتابة والخلق الإبداعي، وهو المنسي في الذاكرة الشخصية، غير الظاهر تماماً. 

للجاحظ قول معروف: "المعاني مطروحة في الطريق" لكن لا معنىً يمكن اصطياده للسابلة من الناس، بل تلك الحاسة السرية الغامضة هي التي تخلخل العقل وتدير بوصلته الى كل معنىً اجتماعي أو غيره. وبالتالي لا توجد "وصفة طبية" لكتابة الرواية أو القصيدة أو القصة أو المسرحية أو رسم اللوحة. سوى أن الوحي- الإلهام هو الذي يتدبر هذا الأمر بطريقة غير مفهومة

تماماً.