نــار باشلار

ثقافة 2023/05/10
...

  حربي محسن عبدالله


جاستون باشلار (1884 -  1962)، أحد اهم الفلاسفة الفرنسيين، ذلك الفيلسوف المتفرّد المتجاوز لكل ما هو مألوف، ينحدر من عائلة ريفية من مقاطعة شمبانيا، وهو حفيد لصانع أحذية، ووالده كان يمتلك مكتبة لتوزيع الصحف في إقليم بار سير أوب Bar-sur- Aube .  كرّس جزءاً كبيراً من حياته وعمله لفلسفة العلوم، وقدّم أفكاراً متميّزة في مجال الابستمولوجيا، حيث تمثّل مفاهيمه في العقبات المعرفية، والقطيعة المعرفية، والجدلية المعرفية، والتاريخ، ترك مساهمات لا يمكن تجاوزها، بل تركتْ آثارها واضحة في فلسفة معاصريه ومن جاء بعده. جاستون باشلار لم يكن يعيش في عالم واحد فقط، بل في عدة عوالم إن صح التعبير. بدايةً، فلقد كان باشلار شخصية مثيرة للجدل، وذلك يرجع بحكم تكوينه المتعدّد المجالات، يناضل في أكثر من جبهة فكرية في آن واحد... (كيمياء، وفيزياء، وفلسفة).

تتميّز فلسفة باشلار بخاصيتين أساسيتين: "ميزة الوضوح، والقدرة على الحلم". بدأ باشلار مثله مثل معظم الفلاسفة بإنشاء نظريته الخاصة في المعرفة. كتابه الأكثر دلالة على ذلك، أثناء تلك الفترة هو "العقلية العلمية الجديدة" 1934. لكن الجزء الثاني من أعماله التي تلتْ ذلك فقد كرّسها لدراسة كل ما هو أكثر شاعرية في الفكر الإنساني: أي الخيال، والأحلام، والروئ.

يدرس علماء النفس التقليديون أن الإنسان يبدأ بالرؤية. بعد ذلك يعيش الإنسان على ما يتذكّره. في النهاية يدخل الإنسان مرحلة التخيّلات. بالنسبة باشلار الإنسان يتخيّل أولاً ثم يرى بعد ذلك ويتذكّر حسب الظروف.

الأحلام، والأساطير، وجنوح التخيّلات المحلّقة،  كل ذلك عكف باشلار بنفسه على تصنيفه تماماً مثلما فعل السيميائيون القدماء بصدد موضوع العناصر الأربعة: الماء، والهواء، والنار، والأرض. هكذا كتب باشلار خمسة كتب مشهورة بهذا الصدّد وهي: 

- التحليل النفسي للنار. (وهو الكتاب الذي نعرضه هنا).

- الماء والأحلام.

- الهواء والرؤى.

- الأرض وأحلام اليقظة الإرادية.

- الأرض وأحلام الاسترخاء.

تشير الموسوعة العالمية إلى أن تأمّل رمزية النار كان عاملاً مهماً في الأعمال الشعرية، والأعمال الرمزية وحتى بالنسبة لفلسفة المعرفة المعاصرة، وأن باشلار في كتابه الذي بين يدينا، قد رفض للمرة الأولى العرض التاريخي السائد باذلاً جهداً لفصل المفهوم العلمي عن الصور الذاتية، مستخدماً التحليل النفسي الموضوعي الذي يبذل كل ما في وسعه لفصل الشيء عن شحنته النفسية، لقد بذل جهداً كبيراً لكي يناهض الوحدة الكاذبة المتعلّقة بالنار. النار ظاهرة محمّلة بكثير من الرموز، على العكس من العناصر الأخرى فإن رمزية النار هي رمزية متعددة المغزى. من هذه الرمزية المتعدّدة تعطى دراسة الموسوعة العالمية محوريين رئيسيين: محور الرموز الحرارية "وهي طبيعة النار الأساسية"، ومحور المجازية.

محور النار الساطعة، نار الوميض الكامنة في بناء تصوّر بطولي، إنها رمز النقاء والتغيير الجذري. هناك أيضاً  النار السماوية، نار الجحيم، نار الضوء المحمّلة برمز ذكوري. هناك نار البركان التي تخرج من باطن الأرض، باختصار النار تمتدّ برمزيتها في الخيال الإنساني ما بين نار حميمة تتمحوّر مع أحلام اليقظة الناعمة اللطيفة، ونار درامية مدمّرة لا تبقي على شيء. ثم النار المطهّرة، نار تنقّي وتطهّر، تقطّر وتسامي. أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا وبالحاح شديد فهو التالي: لماذا تعود الأفكار والمفاهيم التي هُزمتْ، وتراجعت أمام انبثاق الفكر العلمي المعاصر إلى الظهور مرةً أخرى؟ كيف نفسّر تلك الظاهرة التي نشهدها منذ بضع سنوات، والمتمثّلة في ظهور وصعود الأفكار السلفية، والمفاهيم الغيبية اللاعلمية التي كنّا قد ظنّنا أنها قد هُزمتْ إلى الأبد؟

من هنا يأتي تقييم "بول إيلوار" الشاعر الفرنسي وأحد مؤسسي الحركة السريالية، في تقديمه للكتاب قائلاً: " على الفكر الموضوعي أن يتحلّى بالسخرية بعيداً عن أي دهشة  أو انبهار". بدون هذه اليقظة المتوثّبة لن نتحلّى مطلقاً بسلوك موضوعي حقاً. إذا كان الأمر بتعلّق باختبار البشر، كأناس متساويين، تربطهم الأخوّة، فإن التعاطف والودّ يعبران عن مضمون المنهج، وجوهر الطريقة المتبعة. لكن في مواجهة هذا العالم الخامل الذي لا يحيا حياتنا، الذي لا يعاني من الآلام التي نشعر بها والذي لا يتحمّس لأي شيء من الأشياء التي تبهجنا، يجب علينا أن نكفّ عن البوح بالعواطف. يجب علينا أن نواجه أنفسنا. كما يؤكد إيلوار.

كتاب "النار- التحليل النفسي لأحلام اليقظة"، الصادر عن دار كنعان في دمشق، ترجمة درويش الحلوجي، يقدّم منهجاً للتحليل النفسي لأحلام اليقظة، وخاصةً تلك ارتبطتْ بظاهرة النار، وذلك من خلال التحليل النفسي للعقلية اللاعلمية، أو الماقبل علمية كما يسمّيها جاستون باشلار. كما يقدّم إجابات على أسئلة كثيرة مثارة في مجتمعاتنا حالياً.