المملكة السحريَّة والفردوس المفقود

ثقافة 2023/05/10
...

جودت جالي



يمكن لرواية (المملكة السحريَّة ) 2022 للكاتب الأميركي الراحل راسل بانكس (1940- 2023) أن تمسَّ فينا عصباً حساساً يتعلق بالفشل البشري طويل الأمد، يمتدّ لآلاف السنين، في إقامة يوتوبيا اجتماعيَّة ركيزتها الرحمة والعدل من منطلق ديني. لكنَّ اليوتوبيا نفسها التي لا تكفّ عن أن تكون رباطاً وثيقاً مع الأمل هي لغةً تعني “لا مكان” في الحقيقة.

توقف راسل بانكس في العام 1999 عند مكتبة في فلوريدا قامت بعد حدوث إعصار مدمّر بوضع ما تضرَّر بالماء من الكتب والتسجيلات في صناديق كارتونيَّة وتركتها في الخارج لمن يريد أخذها. في واحد منها وجد بانكس أشرطة مسجَّلة وأخذها معه إلى البيت. عندما بدأ يستمع إليها أدرك أنه عثر على شيء مدهش... سيرة ذاتيَّة شفويَّة لشخص يُدعى هارلي مان (توفي بعمر 81 عاماً بعد تسجيل هذه السيرة بفترة قليلة). الواقع أنَّ هذه ليست المرة الأولى التي يوظف بانكس في عمل أدبي سيرةً ذاتيَّة ففي 1998 كتب (فالق الغيوم) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوليتزر عن سيرة جون براون (1800-1859) الذي استخدم العنف ليفرض تحرير العبيد انتهى بإعدامه هذا الإعدام الذي حمل مفارقة أنه فجَّر القضيَّة بشكل أوسع قبيل اندلاع الحرب الأهليَّة. كان براون يؤمن أنه “أداة الربِّ لتحقيق العدالة” وقاد أنصاره في معارك ضارية ومعه أولاده. إنَّ ثيمة كالتي في (فالق الغيوم) يحاول فيها بانكس أن يُمسك بالتعقيدات الأخلاقيَّة لاستخدام العنف من أجل قضيَّة، هذه المساءلة للتعقيدات الأخلاقيَّة دائماً ما تجد لها دوراً تؤديه في أعمال بانكس. بانتقالنا إلى رواية (المملكة السحريَّة) فإننا ننتقل من عنف الداعين للتحرير إلى الشدَّة الهادئة لإيمان مذهب الهزازين (Shakers طائفة دينيَّة بروتستانتيَّة تؤمن بعودة المسيح والمساواة بين الجنسين وتحيا حياة بسيطة تتميز بشدّة الإيمان إلى درجة الاهتزاز عند أداء الفروض الدينيَّة، تأسّست في القرن الثامن عشر في بريطانيا وانتقل قسم من أفرادها إلى أميركا ليسكنوا في المستعمرات). كلتا الجماعتين تواجه عالماً فاسداً إلى درجة لا تطيقه أخلاقياتهما وتسعيان إلى إقامة العالم الفاضل وكلتاهما تمثل بالنتيجة فشل اليوتوبيا وإن كان هذا الفشل يختلف من حالة لأخرى.

“البكرات” تتضمَّن اعترافات هارلي مان التي سجّلها بضمير شاعر بالذنب في العام 1971 بعد فترة قصيرة من إقامة ديزني لاند مدينتها على الأرض التي كانت لجماعة الهزازين يسكنون فيها ويحلمون بتحقق المدينة الفاضلة (مساحتها 7 آلاف فدان)، لكن ديزني لاند هي التي أقامت مدينتها الفاضلة هنا. يقول هارلي إنَّ الجماعة جهدت طوال ستين عاماً في العيش بالمبادئ الاشتراكيَّة للكاتب الإنكليزي جون راسكن والمشبعة بالقيم الدينيَّة. جاءت أمه به وبإخوته بعد وفاة أبيهم ليستقروا ضمن هذه الجماعة ويحصلوا على ضمان للمعيشة، وقد بدا له أنه يستطيع التكيف فوراً مع جوّها راغباً في أن يكون “هزازاً” حقيقياً، أحبّ فوراً ما درج عليه أفرادها من كره للنفاق بقدر ما يمكن لفتى مفكر مثله أن يكرهه، وراق له تقشفهم في الممارسة الجنسيَّة حتى في العلاقات الزوجيَّة وتقديسهم “طهر العذراء” ما جعله يطمئن لوضع أمه الأرملة. تعرف على قائد الجماعة الذي يدعى إلدر جون واهتمّ به هذا اهتماماً خاصاً فسعى الفتى لأن يكون نسخة ثانية من هذا الرجل. لكن حدث ما أثبت له أنَّ هذا الشغف العقائدي والاقتداء بمثال بشري له نهاية أقرب مما يتصور فلم يلبث أن اكتشف وجود فتاة جميلة تعطف عليها الجماعة وتساعدها في تحمل آلام مرض السل. فوراً يحدث التعارض الحاد في العقل الفتي المليء بالحيويَّة ما بين المثال “الهزاز” والشهوات التي يحرمها، ويجد النفاق تربته الخصبة في عقل الفتى وسلوكه. حتى بعد ستين عاماً لا يُفضي لنا هارلي بما حدث بالتفصيل في علاقاته الجنسيَّة، ولكنه حدث.

إنَّ الفتاة سادي برات هي البرهان المجسد أمام هارلي على أنه لا يمكن أن يكون هزازاً، لا يمكنه اتباع المثال الهزاز، لا هو، ولا هي، ولا حتى إخوته وأمه. مع ذلك فالمستعمرة بحاجة اليهم للعمل. على هذا يكبر هارلي ويصبح بوظيفة المطور للمستعمرة إلى أن يمتلك القدرة على شرائها ثم يبيعها أرضاً مهملة إلى شركة ديزني بعد أن انهارت الجماعة ومثالها الاشتراكي بنسيجه الإيماني.

إنَّ اليوتوبيا تتقزّم أمام التأريخ وأحداثه التي تثبت لنا أنَّ أيَّ مثال عظيم تبتكره المخيلة لا يمكنه أن يقف نداً للنظام القائم على اقتصاد السوق وعقليته، ولا حتى يمحو أو يقلل من قوة الرغبات الإنسانيَّة. يبين لنا هارلي كيف أنَّ حبَّه لسادي أسهم في انحدار المستعمرة إلى الخراب عن طريق غيرته من القائد إلدر جون الذي كان يتقرب أيضاً إلى سادي. مع ذلك يقرّ هارلي بأنَّ قصته أكبر منه أو من سادي “إنها قصة سقوط نيو بيثاني (المستعمرة) وصعود مملكة ديزني السحريَّة” حيث يحل ميكي ماوس محلَّ المخلص الخيِّر. في هذه الرواية يستكشف بانك أكبر الثيمات وأكثرها تعقيداً من خلال حياة الشخصيات العاديَّة وأفكارها والصراعات التي يُجبرون على خوضها، وهو توجه جديد في فنه القصصي، لكنَّ القدر لم يمهله ليخوض تجربة مشابهة فتوفي في كانون الثاني من هذا العام.