صحراء التجديد الانقطاع والوصل

ثقافة 2023/05/10
...

محمد جبير

قد يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي: أين تختبئ صحراء التجديد السردي؟ وكيف يمكن تشخيص الانقطاع والوصل؟ وأين يكمن الانقطاع؟ وأين نجد الوصل؟ وهل كان التواصل فاعلًا استمراريًا؟ أم مغايرًا ومختلفًا عن نبعه الأول؟ أو بمعنى آخر، انقطاعًا تواصليًا وقطيعة تامّة مع الموروث السردي برغم شحته؟
مضى قرنٌ على ظهور أوّل رواية في العراق الحديث، ويعدّ هذا الظهور مستحدثًا يراد منه مجاراة النصوص التي ظهرت في العالم الغربي، ذلك العالم الذي شهد نهضة حضارية واقتصادية وثقافية منذ أكثر من خمسة قرون، بينما بقيت البلدان العربية تتدثّر بتخلّفها، وتنظر إلى الوراء، متناسية تحديث الحاضر، وتحريره من الجهل والأمية، وتحدّي الموجات الاستعمارية التي أمسكت به طوال القرون الخمسة تلك، هذه المناخات التي تطفئ النور، وتشيع الظلام، لا ولن تسمح للعقول النيّرة تبديد جزءٍ من ذلك الظلام، وإنّما تجهز على تلك العقول وقتل الأفكار في مهدها، ولم يكن واقع العراق مختلفًا عن تلك الصورة، وإنّما عاش فترة مظلمة بكل معنى الكلمة في فترة الاحتلال العثماني التي دامت قرونًا، ولم يعش العراق فضاء الحرية على المستوى الاجتماعي ولو بواقعٍ نسبي إلا بعد إزاحة ذلك الاحتلال باحتلال بريطاني، ليعقبه بعد ذلك متغير الضباط الأحرار في 14 تموز 1958، على الرغم من الاختلاف في المسمّيات بين الفرقاء المتخاصمين على السلطة والنفوذ.

وإذا أردنا أنْ ننظر إلى المحاولات السردية الأولى، فإننا قد لا نذهب مع مَن ذهب إلى التجييل العقدي، وإنّما نذهب إلى تحديدها بثلاث مراحل، هي:

أوّلًا: المرحلة البريطانية، من 1918إلى 1958.

ثانيًا : المرحلة العراقية من 1958 إلى 2003.

ثالثًا: المرحلة الأمريكية من 2003 ..........

وكلّ مرحلة من هذه المراحل حملت سماتٍ وملامح محددة في سردياتها البصرية والكتابية.

المرحلة الأولى: من الريادة التاريخية إلى الريادة الفنية.

اختلف النقّاد في تحديد لمن تكون الريادة الروائية في العراق، لسليمان فيضي في الرواية الإيقاظية 1909م، أم لمحمود أحمد السيد في جلال خالد عام 1928م، وكانت كفّة الترجيح في النهاية لصالح السيد، على الرغم من الاختلاف على تجنيس هذا العمل، قصّة طويلة أم رواية قصيرة أو طويلة، هذا العام وما قبله شهد ولادة شخصيات عراقية سيكون لها بعد سنوات شأنٌ في الريادة الإبداعية، وتحديث هذه الريادة التي بقيت تراوح في إطار ايديولوجيات الأحزاب السائدة آنذاك، أو محكومة بإطار الواقع المتخلّف، والأمر الذي دفع هؤلاء الشبّان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أنْ يكونوا روّاد التغيير الإبداعي في شتى الفنون السردية، فقد كان عبد الملك نوري، فؤاد التكرلي، غانم الدباغ، مهدي عيسى الصقر، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، بلند وصفاء الحيدري، جواد سليم، فائق حسن، حقي الشبلي، يوسف العاني، كاميران حسني، وأسماء أخرى، قادة المشهد الإبداعي لتحديث وتجديد الريادة التاريخيَّة إلى الريادة الفنّية.

قدّمت البدايات السردية الأولى شخصيات بلا ملامح، غلّفها السارد بكلمات، وشحنها بأفكاره الخاصّة، إلّا أنّ مطلع الخمسينيات شهد الثورة التقنيَّة للنصّ السردي التي أجهضت تجارب البدايات، فقد قدّم (عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي) نصوصًا سردية متقاطعة ومتجاوزة للسائد آنذاك، ويذكر التكرلي في مقالة له: (أنّ الأمر المهم بالنسبة لي هو الوعي بقيمة ما أكتب أولًا، والوعي بضرورة اتّخاذ منهجٍ في الكتابة والخصوصية ثانيا)1.

ويضيف التكرلي (أتذكر أنّنا – عبد الملك نوري وأنا – كنّا في صحراء أدبية شبه مقطوعين، أمامنا، زمنيًا، محاولات محمود أحمد السيد، وذنون أيوب وعبد الحقّ فاضل ويوسف متي وعبد الله نيازي وغيرهم، هؤلاء كانوا يكتبون الأقصوصة بطريقة بدائية أو عشوائية، بكلمة أدقّ تشابه إنشاء طلبة المدارس، من جهة أخرى كنّا نطّلع على المحاولات القصصية في الآداب الأوربية والأمريكيَّة، حسنًا ما العمل؟ لا مجال للكتابة كما يكتب العراقيون، ولا مجال للتقليد الأعمى، إذن علينا أنْ نبحث عن طريق خاصّ للوصول لهذا الهدف) 2.

وهذا الرأي قد يختلف مع اعتراف القاصّ غانم الدباغ حين يقول: (كأبناء هذه المدينة المتناظرة جنوبًا وشمالًا وعيت القصة حكايات وأساطير شعبية ترويها جدّتي في معين لا ينضب لديها) 3.

إنّ غربة نوري والتكرلي في تلك الصحراء الأدبية، حفّزتهم للقيام بحفرياتهم الخاصّة في داخل الإنسان لإيجاد شكلٍ خاصٍّ لتفجير بئر الإبداع التي تفيض عذوبة وجمالًا، إذ لم يعد النصّ صورة للواقع “انعكاساً” مرآوياً، وإنما إعادة هدم هذا الواقع وإعادة تشكيله وفق رؤية جماليَّة متجدّدة، تلك الرؤية كانت كأنّها ينابيع الإبداع.