لمحة من رؤية ستيس

ثقافة 2023/05/11
...

 أحمد الشطري

 

الاستاطيقيا باعتبارها أحد فروع الفلسفة التي تختص بالتعامل مع الطبيعة والذوق والفن بأنواعه المتعددة تعتمد على طرفين كما يرى ستيس (Walter Terence Stace) هما : (المدرك والمتصور) وهو يرى أن النظرة التي تقول "أن كل جمال هو حسي أو محسوس هو خطأ فادح" إذ يرى أن الجمال يمكن أن يدرك بمداركنا 

الداخلية. 

فالفن في كثير من جوانبه يحتاج إلى إدراك جمالياته داخليا باعتبار أن بعض تمثلات تلك الجماليات ليس لها تحقق فيزيقي، كما يرى أيضا أن القبح لا يعتبر نقيضا أو ضدا للجمال، بل يرى أن القبح في الفن قد يشكل عاملا من عوامل الجمال، وهو بالتأكيد لا يعني القبح بوصفه المنطقي أو الأخلاقي بل بوصفه الفني، فالصورة الفنية التي تنطوي على مفهوم قبيح أو شكل بشع لاشك أنها تقدم لنا مدركا جماليا، وكذلك القصة أو الرواية أو الفلم الذي يجسد بصورة درامية مشاهد الخوف والقتل والرعب هو صورة فنية تنطوي على فعل جمالي مع أن محتواها قبيح اجتماعيا أو أخلاقيا أو 

عرفيا. 

إن الجمال هنا يكمن في فنية وإبداعية تقديم الصورة بالشكل الذي يعمق الإحساس أو الإدراك لدى المتلقي بما يتركه ذلك العمل الفني  من قبح ذلك الفعل أو بشاعة الصورة، وهو ما يولد حالة رفض لذلك الفعل القبيح أو الأسباب التي خلف تلك الصورة البشعة.

ولو نظرنا إلى لوحة الجورنيكا أو غرنيكا (Guernica) لبيكاسو سنجد أنها محملة بصور القبح والبشاعة ولكنها تنطوي على الفعل الجمالي الذي يمثله الإبداع الفني الذي استطاع أن يجسد ذلك الفعل البشع بصورة مدهشة، ليعكس لنا من ثَمَّ بشاعة الحرب وآلاتها 

المدمرة.

ويمكن أن نرى ايضا تجسيدا آخر لرؤية ستيس من خلال لوحة بوغيرو (William-Adolphe Bouguereau) المشهورة (دانتي وفيرجيل في الجحيم) والتي استمد موضوعها من رواية الجحيم لدانتي وقد اعتبرت من أكثر اللوحات رعبا في تاريخ الفن. فرغم بشاعة وقبح المشهد المصور فيها، إلا أن ما انطوت عليه في جانبها الفني كان بالغ الجمال والدقة والإبداع بما تضمنته من تقنيات عالية في تجسيد ذلك المشهد المرعب.

وموروثنا الشعري بكل عصوره، ينطوي على العديد من مشاهد القبح التي تحولت بفعل إبداع الشعراء إلى صور فنية مكتنزة بالجمال الذي لا يملك القارئ إلا أن يهتز لها طربا وتفاعلاً، ليس بما تحمله من معنى أو مدلول قبيح، ولكن بالفعل الفني الذي تمكن من أن يصورها أو يبرزها بذلك الشكل، وربما نجد في غرض الهجاء صورة واضحة من صور القبح والبشاعة في دلالاته وما ينضوي في أبياته من معان ومفردات هي بلا شك ذات محتوى بالغ القبح، بيد أننا نقف عنده مبهورين ببلاغة التصوير وحسن الصياغة وفخامة السبك وروعة التعبير والصياغة. ولهذا بقيت تلك القصائد أو الأبيات الهجائية خالدة لما انطوت عليه من جماليات بلاغية وفنية. ولعلنا نجد في نقائض جرير والفرزدق مثالا جليا لذلك بما حفلت به من الهجاء الذي ينطوي على صور حافلة بقبح وبشاعة الألفاظ، ولكن تلك البشاعة والقبح اللفظي جاءت بصياغات بلاغية ونحوية وفنية فائقة الجمال، وهذا ما قد يتفق مع رؤية ستيس من أن القبح لا يشكل نقيضاً للجمال في الجانب

الفني.

إن رؤية ستيس بأن الجمال يمكن أن يدرك بمداركنا الداخلية يؤكده التفاعل الذوقي أو الانطباعي مع النص، وهو ما يتمخض في الغالب عن القراءة الأولية للنصوص الإبداعية بمختلف أشكالها، أو القراءة التي يمكن تسميتها بـ(القراءة الانفعالية) وهي تلك القراءة التي تستقبل النص الفني وتتفاعل معه عاطفيا ولا تملك أو تسعى إلى تفكيك وتحليل النص فنياً وتقنياً، وتسميتها بالقراءة الأولية لا بمعنى الجانب الحصري لعدد القراءات؛ بل بالمعنى الفني الذي يتطلب التأمل والتحليل باستحضار الأدوات الفاحصة، والتي تتطلب حتما تراكما معرفيا، وهو ما يمكن أن يقع تحت مفهوم (التصوري) وفقا لمنظور ستيس، أو لنقل أنه نقطة التفاعل والالتقاء بين طرفي (المدرك 

والمتصور).