حيدر حيدر.. يمضي ويترك الزمن موحشًا

ثقافة 2023/05/13
...

 رولا حسن 

هكذا يبدو رحيله مثل سرابٍ خادع يلمع فوق السهوب البعيدة لبلدته الغافية على سطح البحر "حصين البحر"، التابعة لمدينة طرطوس الساحلية، سراب يمتد ويمتد وتركنا لزمننا الموحش، ننزف وقهرنا وهزيمتنا، نبحث في هذا الضباب اللامتناهي عن شموس الغجر علها تضيء عتمة ما بقي من أيامنا.

ولد حيدر حيدر في العام 1936، ودرس في مدينته طرطوس، ثم أكمل تعليمه في المعهد التربوي بحلب، اختار التيار العروبي والوحدوي وانخرط فيه اثناء دراسته في المعهد، وبعد تخرجه من المعهد وممارسته التدريس انتقل إلى دمشق، حيث الحركة الثقافية النشطة، وبدأ بنشر قصصه في مجلة الآداب اللبنانية، ومن ثم أصدر مجموعته القصصية الأولى 1968"حكايا النورس المهاجر"، ومن ثم روايته "الفهد" التي تحولت إلى فيلم سينمائي بطولة أديب قدورة وإغراء، التي يتناول فيها مرحلة سياسية انتقالية عاشتها سوريا في أربعينات القرن الماضي قدمها برؤية سياسية واجتماعية وثقافية. 

غادر دمشق إلى الجزائر في العام 1970، ليعمل مدرسا في مدينة عينتاب التي غادرها في العام 1974، ومع بداية الحرب اللبنانية، التحق بالمقاومة الفلسطيني في إطار الإعلام الفلسطيني الموحد واتحاد الكتاب الفلسطينيين في بيروت.

وفي أوائل الثمانينيات، غادر بيروت إلى قبرص ثانية مسؤولا عن القسم الثقافي في مجلة "الموقف العربي" الأسبوعية مسؤولا عن القسم الثقافي فيها.

بعد رحيل المقاومة الفلسطينية 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي عاد إلى قبرص ثانية مسؤولا عن القسم الثقافي لمجلة "صوت البلاد الفلسطينية. بعدها عاد إلى سوريا ليستقر في مدينته حصين البحر في العام 1985بعد حياة حافلة على كل الصعد في محاولة لـ "ترميم خرابه الداخلي" كما يقول. لقد كان حيدر حيدر أكثر الكتاب السوريين عزلة وابتعادا عن الأضواء والصحافة، وتعد تجربة حيدر انعطافة مهمة في تاريخ الرواية السورية، وخروجًا يسجل له عن رواية تسجيل الواقع، وتقليده، ويقول عن ذلك في حوار معه "كنت واحدا مع أبناء جيلي ممن أدخلنا تغييرا على ما كان يسمى في زمننا بالرواية الاجتماعية الوصفية، التي كانت تعنى بالأحداث والوقائع .لقد أدخلنا تغييرا جذريا على الرواية السورية اسمه الأسلوب التعبيري الذي اهتم بالعالم الداخلي، فالرواية التعبيرية التي كتبتها دخلت في مجالات علم النفس والشعور الفردي والجماعي، والأحلام والكوابيس عند الإنسان".

لقد عمل صاحب "وليمة لأعشاب البحر" بجد على التجريب في روايته فأحال الزمن المستمر إلى زمن متناوب ومتقطع، فلم يعد الزمن مستمرا، بل مموجٌ وهذا الأسلوب ظهر في أسلوب تيار الوعي عند جويس وبروست وفوكنر وفرجينيا وولف، رواية الزمن هذه على حد قوله "كانت رواية الأعماق النفسية، والاقتراب من المحرمات والتابو بأسلوب راق ،وليس فجا ومباشرا"، لكن بما كتب "صاحب الزمن الموحش" فقد اجترح لجام الإبداع ،مما فتح له أفاقا فنية رحبة وثرية، لم يكتف حيدر بملامسة التابو بل مضى إلى "الإبداع بهتك القدسية الزائفة، التي تتغلل بها تجربة في الحب أو الجنس، تجربة حزبية، أو نظام سياسي". في "الزمن الموحش" والتي تعد من الاعمال الروائية السورية المهمة، طمح حيدر إلى تقديم تاريخ فني، تاريخ غير شخصي، لمرحلة معينة أو لحزب، متوسلا إلى ذلك بما يتيحه الفن الروائي من وسائل وكأنه كان يكتب التاريخ غير الرسمي لبشر القاع الاجتماعي المهمشين والطامحين إلى مغادرة هذا القاع في آن، مشخصا بذلك شقاء الضمير العربي وبؤسه النازف تحت مدية التاريخ. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صاحب "شموس الغجر" ينفي أن تكون الرواية تاريخا بالمعنى الحداثي، الواقعي المرجعي لكنها قد تستند إلى التاريخ، وتحيل عليه في سياق تطور المجتمع ومخاضاته الملحمية، ففي روايته "وليمة لأعشاب البحر" والتي تعد رواية ملحمية على نحو ما، كان لا بد من الإحالة إلى التاريخ المأساوي، والسقوط التراجيدي لما حدث في الجزائر والعراق كبلدين عاشا خضم تجربة ثورية، كل منهما مختلف ومتقاطع عبر مخاض منكسر، تقاطع الأمل مع الخيبة والنهوض مع السقوط، الحرية مع الاستبداد، الموت مع الحياة. وهما في البعد الروائي والواقعي تعبيران عن انهيار الحلم ورؤية للتاريخ العربي وهو ينجرف نحو الهاوية، والسقوط والدمار الذي نحياه الآن في ظل الحروب والشتات والخراب والوطء والارهاب الدموي. لم تكن روايته وليمة لأعشاب البحر والتي أثارت ردود فعل عنيفة لاحقا، والتي منعت في فترة معينة من التداول، هي الأهم كما يعتقد الكثيرون في نتاجات حيدر إذ لا تقل "أوراق المنفى" التي صدرت في 1993 أهمية عن تلك فقد كانت كتابا تسجيليا بامتياز يسجل فيها صاحب "مرايا النار" شهادات قاسية وجارحة عن زماننا العربي فهو كاتب اليأس والقوة، والنهار المهزوم بالظلمة، والحزن والموت المخيم فوق أرواحنا.

يسجل ذلك لأنه لا يحب الزيف والتبشير الخادع بالغبطة، فقد ولى الزمن الجميل، وأقبل زمن العار كما يقول وكأنه مصمم على أن تكون شهادته صوتا يفضح كل هذا الانحطاط والتهور والتعسف المبرمج، ومواجهة قوية وجريئة للعار.

لقد كان حيدر كاتبا متمردا على جميع أشكال التنميط والسلطة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. "أن أفكر بحياتي وهذه الهجرات التي حملتني أمواجها، ثم صداماتي وانعدام تلاؤمي مع المفاهيم السائدة، أدرك إلى أي مدى كنت شقيا وعابرا كما شهاب في فضاء فصل عن كوكبه وضاع. على الأغلب كنت أستجيب لطبيعتي القلقة، وللرغبة في السفر والبحث عن المجهول والغامض الذي لا أعرفه." من كتابه أوراق المنفى.

أصدر حيدر أكثر من 17 مؤلفا ما بين الرواية والقصة والمذكرات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: شموس الغجر 1997، غسق الآلهة 1995، أوراق المنفى 1993، مرايا النار 1992، وليمة لأعشاب البحر: نشيد الموت 1985، التموجات 1982، الوعول 1978، الفيضان 1975، سيرة نضال كبوتشي 1978... الخ والتي ستبقى ولزمن طويل مادة دسمة للنقاد والقراء.

مع رحيل حيدر تودع سوريا المكلومة علما آخر من أدبائها بعد شوقي بغدادي وعادل محمود وناظم مهنا وآخرين... باب الرحيل مفتوح على مصراعيه والنعوش تمشي الهوينا إلى القلوب.