تخييل المدينة: قراءة خضراء في مرايا الغمام

ثقافة 2023/05/13
...

  أ.د.سعد التميمي


يمثل ديوان (مدن في مرايا الغمام) للشاعر محمد عبد الله البريكي، نافذة يطل من خلالها المتلقي على الصورة التي يجب أن تكون عليها علاقة الانسان بالطبيعة،فالديوان ضم احدى وعشرين قصيدة خصصها لمدن عربية يحكمها التعامل الإنساني مع الطبيعة والمحيط ،وترجمة ذلك في القصائد بالتصريح أو الرمز، أو الاضمار كنسق حاضر في القصيدة ومن هذه المدن التي عبر عن دعمه لها(بغداد، أم القرى، القيروان، الشارقة، بيروت، دمشق، طنجة، مسقط، عمّان) إذ تتجلى في هذه القصائد علاقة الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص بالبيئة، التي تأخذ أشكالا متعددة بدءًا من المدينة وانتهاءً بالتفاصيل الجزئية للبيئة المتمثلة بالطيور والنباتات، لذلك تتطلب قراءة خضراء تكشف طبيعة علاقة الشاعر بالمدن العربية التي قدمها كقصائد تحقق الدهشة أولا وتدعو إلى الاهتمام بها ثانيًا، إذ تنطلق عناصر البيئة وصورها من مخيلة الشاعر للتأثير في المتلقي لذلك، فعملية تفكيك عناصر البيئة في هذا الديوان تتطلب قراءة خضراء تتحسس الروح التي تنبض بها القصائد، وأول مظاهر هذه العلاقة تتجسد في العنوان الذي يعكس الاهتمام بالبيئة، فالمدن تحيل للقصائد والغمام  يحيل إلى البيئة التي تمنح للانسان فيختزل البريكي في العنوان علاقة الإنسان ويعزز ذلك بلوحة الغلاف التي تتشكل من شفاه واطلال مدينة تلونت باللون الأخضر رمز الحياة والبيئة، وهذه القراءة يطرحه النقد الايكولوجي(البيئي)، الذي ظهر في ستينات القرن الماضي بعد التحول الذي طرأ على الثقافة والمعرفة تحت مظلة فلسفة ما بعد الحداثة إذ يبحث عن علاقة الأديب، من خلال نصه الشعري والنثري، بالبيئة بما يحقق المصلحة لهما، مما يدفع اللأول إلى التغني بالبيئة والدفاع عنها، فلا يكفي الأديب أن يتخذ منها رمزًا جماليا، يحقق الدهشة في المتلقي على طريقة الرومانسيين، بل يحاول أن يبث فيه روح التفاعل مع البيئة ويشجعه على الحفاظ عليها بوصفها بوصلة للتوازن  بين الأرض والانسان،  ليسهم في تحديث الفكر النقدي، الذي يأتي يرتبط  بالواقع باشكالياته التي يعاني فيها الانسان من مشكلات الحرية والمعيشة والسلام والصحة، التي نتج عنها ظهور حركات وجمعيات ومنظمات رفعت شعار حماية البيئة بعد تفاقم ظاهرة التلوث في البر والبحر والجو، وما اقترفه الانسان بحق البيئة من خراب وتدمير تمثل في تراجع المساحات الخضراء أما توسع ظاهرة التصحر وقلة الموارد أمام الزيادة الكبيرة في السكان.                                                                                           ويأتي استعمال البريكي لعناصر الطبيعة بأساليب أدبية ومجازية بالاستعارة والرمز تارة والتشبيه تارة أخرى للتعبير عن رؤيته للمدن التي مر بها فأثرت به لأنها تبض بالروح والجمال رغبة في لفت انتباه الجمهور إلى هذه المدن، بوصفها بيئة جاذبة تمنهم الطمأنينة والجمال لتكون القصيدة داعمة للمناظرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تناقش قضايا التلوث البيئي وتدعو إلىحماية البيئة، إذ يقول في قصيدة (الشارقة):   


  تعالي فالصــــباح بنا سيبدا/ وكوني الحـقل كي اختال وردا

تعالي أطعمي عصفور حرفي/ بملعقة الرضا والوصل شهدأ

فأنـــت حبيبتي والشـــــعر لمّـــــا/ تعكزَ فـوق أدعيــتي ونــــــدى

تقول لي القصيــدة مــن تــراها/ إذا غنيــــتها تختــــــال وجــــــــدا

أقول وفي فمي تــلد القــوافي/ بــــــلابل تنشـر الألحــــان ودّا

هي القمر الذي اكتحلت سمائي/ بفتنتـــه فصار الكون أندى

فالبريكي يؤنسن المدينة مرة فيدعوها(حبيبتي)، لرسم الجمال وبث الحياة في النفوس ليبدأ بتخييل البيئة وتقديمها بقوالب جمالية فاعلة ولتعضيد رؤيته يأمر المدينة أن تكون حقلًا تتفتح فيه الأزهار وتتوالى الأوامر(تعالي، اطعمي)، لتشكل قوة انجازية تحقق البعد التداولي الذي يعكس رغبة الشاعر في التفاعل مع البيئة، بوصفها رمزًا للحياة والجمال،ويؤنسن القصيدة مرة أخرى(تقول لي القصيدة) وتتوالى الصور الشعرية التي يزاوج فيها بين الزمان والمكان والجمال والمعرفة، من خلال اسناد الفعل (تعكز) للشعر والفعل (تلد) للقوافي وتتماهى القصيدة بالطبيعة، ليرسم صورة المدينة في قوله(هي القمر) لتكون نتيجة هذا التماهي أن الكونأصبح أندى ،لتغدو القصيدة وثيقة تعزز أهمية الحفاظ على البيئة، وهذا ما يكشفه المعجم الشعري المهيمن على القصية(الصباح، الحقل، ورد، عصفور، شهد، ندى، بلابل، القمر، الكون، الأمواج، البحر، سحاب، طير) ويتجلى في هذا المعجم وما حققه من صورشعرية الترابط الزمكاني في التمثيل الأدبي.                                                 

   فالبريكي في هذه القصيدة وغيرها من قصائد الديوان(أم القرى، بيروت تسرح حزنها شنقيط عمّان غيم السخاءالباحة، نخلة العشاق)، يكشف عن جماليات البيئة التي بدأ يطالها التهديد لتتحول من مصدر إلهام، أو مجال نصي في ما مضى من عمر الأدب والفن، إلى مظلة العناية نتيجة للأخطار التي تحف بحياة الإنسان لما تتعرض له البيئة من تدمير بفعل عوامل معروفة فلم تعد مجالا إيكولوجياً يقتصر على دائرة العلم إذ اصبح لها حماة ومدافعون كان منهم الادباء والشعراء، ففي قصائد هذا الديوان هناك تأكيد من البريكي أن الجمال ملازم للطبيعة، إذ يقول في قصيدة بغداد:        

    

ها جلتُ أحمل في فمي أعذاري/ فتهيني كي تسمعي أشعاري

رافقت یا بغداد نبض حقيبتي/ ونداك أيقظ في الخُطى قيثاري

أودعت في أرض القصيد أطايب الـ/ ليمون والسيداف والأزهار

وحملت نخلي للنخيل فكل   / نخل توأم العُشاق من سُمّاري

لوحتُ للسَّعَفِ المرفرف، قال لي: / نخل العراق وإن تباعد جاري

ولبست ثوب الشوقِ مقلوباً وما / صبرتُ أشواقي على أزراري

ياأرض إنّ شقائق النعمان تَســـ  / أل دون وعي في الحِمى ذي قار

من جديد يؤنسن البريكي المدينة عامدا إلى تخييل المدينة وبث الحياة فيها، رغم ما عانت منه من محن ومآس، ويعمد التي تعزيز انتمائه للبيئة المتمثلة بـ (بغداد) من خلال عدد من الصور الشعرية التي تقوم على الاسناد المجازي مثل اسناد النبض للحقيبة واليقظة لندى المدينة والقول للسعف والثوب للشوق والسؤال للشقائق، فالشاعر يريد من خلال هذه القصيدة ان يعبر عن اعتزازه ببغداد بتاريخها وارثها وحاضرها من جهة، ويؤكد أن الحياة يجب تبقى حاضرة في هذه المدينة ،وهذا الأمر لا يمكن أن نصل اليه من دون أن نقرأ القصيدة على وفق منطلقات النقد الايكولوجي، بوصفها خطابا مدافعًا عن جمالية البيئة ومشجعا على التعامل معها بايجابية والتفاعل مع عناصرها،  وعلى الرغم من أن الإيكولوجيا من العلوم الدقيقة و الأدب مجاله الخيال والإبداع، الا إن ذلك لا يمنع أن ندرس العلاقة بينهما، من خلال القصيدة.