حينما يهيمُ الشاعر بالكتابةِ عن تجربته الإبداعيَّة

ثقافة 2023/05/15
...

 باقر صاحب 


العنونة المختارة أعلاه تنبئ بأنّ الشاعر المصري حسن شهاب الدين، في مجموعتهِ الجديدة (بخفَّةِ قطٍّ للقصيدة)* مُغرمٌ أشدَّ الغرام، بالإفاضةِ الشعرية عن تجربته في كتابة القصيدة، ليس عنوان مقالتنا فقط من يوحي بهذا الانطباع الأولي، بل عنوانُ المجموعةِ أيضاً، ولوحةِ الغلافِ الأمامي بتشكيلها الحروفي.

 هنا يتوحَّدُ العنوانُ والغلافُ معاً في ترسيخ رسائل جماليةٍ ودلاليةٍ بأنَّ نصوصَ المجموعةِ لن تترك شيئاً يتعلق بالقصيدة ولواعج كتابتها ومقتربات معانيها إلاّ وتتناوله شعرياً، وأوّل تلك المعاني هي أن القصيدة لدى شهاب الدين تعني الحزن بتماهٍ كلّيٍّ بينهما، وليس عبثاً اختيار الشاعر مقتطفاً من نصه المُعنون (اكتبْ كأنّ شهيداً): ص125 على الغلاف الأخير كي يكون رسالةً للقارئ بأنَّ نصوص المتن في هذه المجموعة تستقي من مداد الحزن فيوضاتها، بل إن الحزن هو القصيدة ذاتها فيذكر: «تريد تكتب؟ / هاكَ الحُزنَ لا القَلَما /  ماذا تضيفُ إذا كانَ المِدادُ دما». 

هذا الانسياب الحزين يمكن أن تكون فحواه خُلاصةً تحذيريةً بأنَّ آلامَنا وهمومَنا الجمعيةَ والفردية، لن تستوعبَها كلُّ نصوصِ الشعراء والكتاب. 

يوجِّه الإنسان شهاب الدين أمراً كتابياً لذاته الشاعرة، بأن، استمري.. استمري في الكتابة، ولكن أن عجزت الكتابة من  أن تشفي اختلالاتك أنت ومن معك من الناس في رحلة الحياة،  فمن الأفضل لكَ أن تكتب مرثية موت شعرك، وتلتجئ للصمت، هو بالتأكيد موتٌ مجازي، لأنَّ الشاعرَ بما حشّد  من نصوصٍ تستدعي مُختلف لواعج الكتابة، لن يتوقف أبداً، فتراه يكرّر، على سبيل المثال لا الحصر مفردات (الشعر، القصيدة، الكتابة، القراءة، القلم، المداد) مع اشتقاقاتها وتركيباتها الجُملية المتواترة في العنواناتِ والمتون، للدرجة التي توحي للقارئ كم هو شاعرنا محتدمٌ دائماً بعوالم الكتابة الشعرية وأقانيمها التي لا تُحصى، مثلاً من العنوانات الرئيسة لأقسام المجموعة (تضمنت مفتتحين وستة أقسام): طفل في مقام الشعر، وتندرج تحته قصائد متقاربة الأجواء دلالياً، من عنواناتها: لماذا أيها الشعر، سيرة كائن اسمه الشعر، الشعر ليس اقتراحاً، فرصةٌ أخيرةٌ للقصيدة، تدريباتٌ لونيةٌ بقلم الرصاص، قصيدةٌ لزمنٍ آت. ومثالٌ آخر: القسم الثاني في المجموعة: اكتبْ كأنَّ شهيداً، كذلك تندرج تحته قصائد متشابكةٌ بكلِّ ما يتعلّق بهموم الكتابة والشعر. فضلاً عن أقسامٍ أخرى عنواناتها مستقاةٌ من طبيعةِ الكتابة الشعرية ذاتها، فالمجاز أسٌّ إبداعيٌّ مهمٌّ في الكتابة، ارتبطت هنا  لفظة المجاز بعنوان القسم الخامس من الكتاب: أنثى ترتدي ثوبَ المجاز، أو عنوان القسم السادس :ما لم يحتمله المجاز. 


عندما تتأنسنُ القصيدة 

هيام الشاعر بالكتابة شعراً عن القصيدة وعوالمها الرحبة اللامتناهية، جعله يؤنسنها إلى حدّ رفقتها له وهو ماضٍ في دروبِ الحياة، فهي أوراقه الرابحة – الخاسرة معاً، وكذا هي الحياةُ مع كلِّ إنسان. أنسنة القصيدة كما في أحد نصوص المجموعة (ورقتي الرابحة) تتجسدُ عندما تختلطُ القصيدة مع الناس ودروبهم وهمومهم كأيِّ كائنٍ حي، القراءة الفاحصة لهذا النص، تجعل المتلقي يخرج بانطباعٍ مفادهُ بأنها أحد مخرجات الشاعر من سني تجربته الإبداعية خلال أكثر من ربع قرن، حتى أنه اختار عنوان المجموعة من إحدى عباراتها، يقول شهاب الدين» كشارعٍ.. / في خطا الماضين ينفرط / قصيدتي .. / حينما بالناس تختلط «: ص21 .هذا الاقتباس من النص –النموذج يوصل لنا التحام الشاعر بالهمّ الجمعي. وفي النص النموذج ذاته يتوضح لنا الجانب الجمالي واشتراطات شهاب الدين  في كتابة القصيدة، بل إنه يكشف فيها عن رؤيتهِ لبناء القصيدة، إذ ينبغي أن تكون غير مثقلةٍ بزيفِ الكنايةِ والتشبيهِ، أي أن شهاب الدين يفضّل أن تكون القصيدة ذاتَ بناءٍ بسيطٍ ومعنى عميق، وهو ما يقال عنه (السهل الممتنع)، كي يتفاعلَ معها، كما أظن، البسطاء من الناس، كما في المقطع التالي «تمشي بخفَّةِ قطٍّ/ ليس يثقلها زيفُ الكناية/ والتشبيهُ/ والشططُ/ بل في بساطة أمٍّ / ترتدي وطناً من الهمومِ/ ولا شَكوى/ ولا سَخَط» ص22. في هذا المقطع الرائع، أرى أن المستويين الدلالي والجمالي يتحدان ببراعة، ففي المستوى الأول تتّحد القصيدةُ بالوطنِ والأم، وفي الثاني تتكشّف الرؤية الشعرية لشهاب الدين، فأراه ممتعضاً من الغموضِ المُفتعل في نصوصِ الكثيرين، إلى الحدّ الذي يعدّهُ مزيّفاً. وعلى ذلك اعتمد قصيدة التفعيلة مع الالتزام بالقافية، كي يخلق الإمتاعَ لدى المتلقي بالإيقاع الموسيقي ذي الرنين العالي، بوصفه من مخرجات تضافر الوزن مع القافية.

أوضحنا هنا للقارئ الكريم أهم مُخرجات هذه المجموعة، بحسب الحيز المتاح لنا، وبالـتأكيد أن هناك متفرّعاتٍ دلالية كثيرة من الرابط الأساسي:  القصيدة وهموم كتابتها والفضاءات الرحبة لجمالياتها. وحسن شهاب الدين شاعرٌ معروفٌ على مستوى مصر والعالم العربي، تولّد 1972 القاهرة، وهو غزيرُ الإنتاج، حيث أصدر نحو 13 كتاباً شعرياً، منها: شـُرفةٌ للغيمِ المُتعَب، أعلى بناية الخليل بن أحمد، مُتوّجٌ باسمي، خيمةٌ لمجنون الصحراء، أثري في المرآة (مختارات شعرية) وغيرها. 


*صدرت المجموعة عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، عام 2023 .