الشعر الشفاهي في المجتمعات البدائيَّة المبكرة

ثقافة 2023/05/15
...

 مورتن بلومفيلد

 ترجمة: أمجد نجم الزيدي

   نوقش الاختلاف بين الأدب الشفاهي والكتابي بصورة موسعة، حيث يعلق ادوارد فراينكل «من المألوف في العالم الحديث أن المكان الطبيعي للقصيدة هو الكتاب، وأنها موجهة بالدرجة الأساس إلى قارئ محتمل، وأن القصيدة تعالج نفسها، ولكن حتى مع بداية ظهور الكتاب، وقلة الذين يعرفون كيفية الكتابة، «كان الأدب لا يزال شفاهياً، وشيئاً يتعين أداؤه وسماعه، فالكتاب ليس شيئاً يجب إعطاؤه للعامة»، كما علق غليبرت موراي.

   انتعش الاهتمام بالأدب الشفاهي انتعاشاً كبيراً بفضل بعض الباحثين أمثال هيكتور مونرو ونورا تشادويك، ستيث ثومبسون، ميلمان باري، والبيرت لورد. ووجد اهتمام مماثل في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مسترشدين بنقاد الرومانسية أمثال هيردر، لكنه بدأ ينحسر في الغرب تدريجيا ًعلى أقل تقدير حتى ظهور أحدث تجلياته، والذي استند على دراسة دقيقة للنصوص الموجودة والمجتمعات الشفاهية الباقية على قيد الحياة، فعندما ندرس المجتمعات البدائية المبكرة، فنحن نتعامل مع الأدب الشفاهي، الذي هو بطبيعته مؤقت، وزائل، لكنه يجدد نفسه بنفسه، إذ لا تزال المجتمعات التي يزدهر فيها الأدب الشفاهي باقية على قيد الحياة، على الرغم من تراجع أعدادها، لكنها على الأغلب قد تأثرت جميعها بثقافة الكتاب، إلى الحد الذي أبعدت فيه عن أي شيء يمكن أن يطلق عليه حالتها البدائية. 

إذ إن تفكيك هذه المجتمعات بواسطة عملية التوسع الحضري، تهدد ثقافتها الفريدة، أكثر حتى من وصول الكتاب نفسه.

   فعلى الرغم من أن البروفيسور لورد قد رأى بأن ثقافة المجتمع يجب أن تكون أما شفاهية أو كتابية، فهناك الكثير من الدلائل التي تشير لعكس ذلك، وربما، حتى لو لم تكن هناك مرحلة انتقالية بين البناء الشكلي، كما سيأخذه البروفيسور لورد، والبناء الكتابي. تعتمد الإجابة جزئياً على ماذا عنينا بالمرحلة الانتقالية، فهنالك الشعراء الكوسيون (Xhosa) (الكوسا -Xhosa) أو الكوسيون وهم من المجموعات العرقية التي تعيش في جنوب شرق أفريقيا، ويتكلمون اللغة الكوسية أو كما يسمونها بالخوسا ومن أشهر شخصياتهم الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا. ينظر الوكيبيديا -المترجم) الذين ينظمون قصائدهم شفاهياً، ويدونون الشعر أيضاً، وربما حتى وإن لم يكن النوع نفسه من الشعر، وفي جميع الأحوال فمن الواضح أننا يجب أن نعرف قدراً كبيراً عن المجتمعات والشعراء الشفاهيين، أكثر من مغني الأغاني الملحمية اليوغسلافي (guslari) وشاعر الكوسا (Xhosa imbongi)، قبل أن نتمكن من إجراء التعميمات بكل ثقة.

   اهتم البروفيسور لورد بصورة رئيسة بعملية البناء الشفاهي: ماهي الثيمات وصيغ الشعر السردي الشفاهي، وكيف يستخدمها الشاعر؟ وبالتحديد عني بمشكلة كيف يمكن أن تنظم القصيدة، بحجم ملاحم هوميروس، شفاهياً، فالموضوع الذي يعنينا هنا يختلف، إذ نحن مهتمون بالوظيفة الاجتماعية للشعر الشفاهي في المجتمعات المبكرة وشروط أدائها، حيث نتمنى أن نسأل: ما نوع القصائد التي هي قصائد شفاهية؟ وكيف يعمل الشعراء داخل مجتمعاتهم؟ وبأي صفة يقفون إلى جانب زعمائهم، وزملائهم الشعراء، ومتلقيهم؟ ومتى يلقون القصائد؟ وماهي الأدوار التي يلعبها الشعراء والقصائد في مجتمعاتهم.

   نُظم الشعر الشفاهي ارتجالاً، وحفظ في كثير من الأحيان بالذاكرة، غالباً بمساعدة تعابير شكلية (formulaic)، وينتشر بفضل الأداء، فما زالت المسرحيات وقطع الموسيقى تنتشر ربما بواسطة الأداء، لكن طالما أن لدينا الأبجدية، والنوتة الموسيقية، والتكنولوجيا لتسجيلها بشكل نموذجي، فوجودها لا يعتمد على الأداء، فالأدب الشفاهي الحقيقي فقط يمكنه أن يعيش بواسطة الأداء، فليس له نص نموذجي، فكل أداء في مجتمع شفاهي حقيقي هو الوسيلة الوحيدة للانتشار.

 يختلف جميع مؤدي العمل الشفاهي بدرجة معينة، لكنهم يعتقدون جميعاً أنهم يؤدون العمل نفسه، ويفكرون بالعمل بما ندعوه ربما بـ “بنيته العميقة” أو نمطه الأولي (archetype).

   بالتأكيد قد نعتقد، كما يرى جيرارد مانلي هوبكينز (Gerard Manley Hopkins)، أن قراءة عمل أدبي معادل لأدائه، ولكن حتى وإن رأينا ذلك فطالما أن الشعر منطوق فهو ليس مؤدى، لأن العين لا تمنح التأثيرات التي تحتاجها الأذن، فالأذن أساسية في الشعر، فأداء الشعر، والموسيقى والرقص في المجتمعات المبكرة هو، في الوقت نفسه، الإبداع والنص والانتشار.

   تنظم القصائد الجديدة لمناسبات خاصة والشعر التقليدي تغير عبر الزمن، فمبدئياً، ليس كل الشعر الشفاهي تقليدياً، فالتاريخ بصفته تاريخاً فقط؛ مفتوح دائماً على إعادة التأويل، كمتن وصفي للمعرفة، لذلك فمتن الشعر الشفاهي التقليدي يخضع بصورة بطيئة لكن واثقة لتغييرات في التركيز والصياغة، ويجب التأكيد بأن حوادث معينة لم تمس، بالحقيقة، على مر السنين، فقصة بطل أغفلت مآثره المعروفة ستعد إهانة لذكراه، ومع ذلك، فيمكن تعديل هذه المآثر والمبالغة فيها، فبدلاً من أن يقتل البطل مئة رجل، ربما يقتل ألفاً، تجمع نسخ القصة أو القصيدة ببنية ضمنية، تعتبر اختباراً نهائياً لصدقها، فلا يمكن أن تنتهك هذه البنية العميقة، فعلى الرغم من حقيقة عدم وجود رحلتين متماثلتين تماماً، يؤدي قطار الثامنة والأربعين دقيقة رقم 171الوظيفة نفسها كل يوم.

   فمن المستحيل، كما أشرنا أعلاه، إنكار مكانة الأدب الشفاهي على الثقافات التي تمارسه، حتى خلال مرحلة انتقالها إلى ثقافة الكتاب، فالإحالة الذاكراتية فعالة في الثقافة الشفاهية ولا يمكن تجاهلها، وهي شفاهية على القدر نفسه كالارتجال مع الصياغات الشكلية، فليس غرضنا شرح ملحمة هوميروس، ولن نهمل الإحالة الذاكراتية عندما يشار إليها بوضوح.

  الثقافة الشفاهية ثقافة مختلفة عن ثقافة الكتاب، لن نعنى هنا بالطرق الكثيرة التي تؤثر بها خطوة الانتقال من الأذن إلى الفم ثم إلى العين في الحياة، لكننا مهتمون بانعكاسها على الفن الشفاهي في إطاره الاجتماعي، ما يتعين علينا عمله هو افتراضي بصورة أساسية، فالشفاهية لا تترك لقى أثرية.

 إن الأدلة على وجود المجتمعات الشفاهية الحديثة، أو الشفاهية بصورة عامة، مع استمرار انعكاسات المجتمعات المبكرة موجودة في أذهاننا والعالم، تجعلنا نأمل أن نضع أيدينا على طبيعة الأدب الشفاهي المبكر، لكي نتمكن من إعادة فحص الأدب المكتوب، وخاصة الأدب الكتابي المبكر في رؤية جديدة وأكثر دقة، تشبه هذه العملية، إلى حد ما، الدائرة الفلسفية الشهيرة، والتي لفت انتباهنا إليها في القرن العشرين ليو سبيتزر (Leo Spitzer)- فيمكن لحركة ذهاباً وإياباً أن تنير النصوص حتى وإن كان التركيز هنا ليس منصباً على فقه اللغة (philological)، ويمكن للعملية الدائرية هذه أن تعطينا، مع ذلك، قرائن بأن ذلك ربما يقود إلى فهم جديد للأدب الشفاهي، عندما نعيد تأويلها بضوء إعادة بناء المجتمعات المبكرة، والتي بدورها ستلقي ضوءاً جديداً حتى على المسائل المتعلقة بفقه اللغة.