الحريَّة في الفن

ثقافة 2023/05/16
...

 صالح رحيم 


الحريةُ: هي فنُّ الفهم، إدراكُ المتعالياتِ فنياً، أو اقتناص الصيرورة في ضوء رؤيةٍ قائمةٍ على ما هو جمالي. 

الحريةُ هي الفن، في أبهى صوره وأشكاله، فإذا كانت الفلسفة تنظر في الأشياء لتهندس العالمَ ضمن مقولات كلية، فإن الفنّانَ يخترق الأشياء، بنظره الثاقب، دونما جهد، إنه يرى-بتعبير برغسون- ما لا يراه الآخرون، إنه يرى الأشياء في صفائها الأصلي.

فضلا عن أن هدف الفنان أسمى وأعلى منزلة من هدف الفيلسوف، من حيث أنه ينظر بلا هدف، إنه- وهذه وجهة نظر شخصية- لا يرمي من وراء نظره سوى التعرف إلى العالم، عبر اجتراح رؤية جديدة تتحقق كلما انتهى من عمله الإبداعي، فعند حدود العمل الفني ينتهي العالم، ولكن عند حدود الفكرة يبدأ العالم كما يذهب ديكارت، المعرفة في ضوء المذاهب الفلسفية تستحيل إلى لوثة، إلى تكبيل، في حين انها فنياً، تؤثث ما يربت على كتف المحروم، تعزي الفاقد، وتمد العالم بالعزاء، لأنها تحيل العالمَ إلى مقولة جمالية، تعيد النظر بما ألفته أعين الناس، وتقدمه بطريقة مغايرة، إنها تحرر المحسوس من قيوده الحسية، تعطيه أجنحةً، وتطلقه في السماوات. 

وإذا ما سألنا فريدريك نيتشه، حول الأمر، فإنه يجيبنا بأن المعرفة ما هي إلا أوهام، اتفاقات لسانية، فالمفاهيم عنده لا تمثل جوهر الاشياء، بل غلافها المجازي الفارغ، ترد نظريته المعرفية هذه في سياق حديثه عن الحقيقة والكذب خارج المعنى الاخلاقي، ومن ثم فإن نيتشه يضع الفنانَ قبالة العالِم، «فقد وضع العالِم نفسه في حصن منيع وهو يعتبر المفاهيم جوهر الأشياء، في حين أن الفنان طليق وحر في حركاته، يعرف خداع التحديدات وخداع المجازات، الفنان في نظر نيتشه هو رجل الحدس، الذي يمثل نمط انسان يفوق رجل المنطق ورجل العلم، لأنه لا ترشده المفاهيم إلى الحقيقة، بل يرشده 

الحدس». 

إذ إنَّ اللغةَ تتجاوزُ حدودها بالحواس، فإما أن تعجز، فنظل عند حدودها جاثمين، وإما أن نتجاوز بها الحواس، فنظل عندها شاردين، وبين هذه وتلك، تنتفي الحاجة إلى المطلق.

وحده الفنان، يذهبُ بنا بعيداً عن اللغة وتعقيداتها، وعن الحواس ومحدداتها، عبر اجتراحه المستمرّ لأدوات خطابٍ لا تنفد، يحررنا من سجنِ الصيرورة، وينفخُ في قلوبنا المطلقَ بأسمى تجلياته.

وَكَمن يطأُ الأرضَ لأولِ مرةٍ، حافياً، تتعرفُ قدماه إلى طبيعة التراب، بالمشاعر نفسها التي تحملُ براءةَ الماشي، يخلقُ الفنانُ العالمَ، وبالمشاعر نفسها تلك، نتلقى عمله، ليسَ الفنُّ خلاصاً مؤقتاً كما يذهب شوبنهاور، بل إنه الخلاصُ الأبدي، إنه الحياةُ الخلاقةُ والعظيمة داخل أسوار الحرية.