مفهومُ النقد من الممارسة إلى النظريَّة

ثقافة 2023/05/16
...

  محمد صابر عبيد

ينفتح مفهوم النقد الواسع والمتعدد والعميق والمتجدد على مساحات نظرية غزيرة ومتداخلة ومعقدة -وغامضة أحياناً- قد لا يمكن الإحاطة بها واستيعابها بسهولة؛ لفرط ما غزت طبقاتِ هذا المفهوم من نظريات وتيّارات ومذاهب ومناهج ومصطلحات وغيرها، وحرثت ما يصلح للحراثة وما لا يصلح بما يقلل من كفاءة الأرض ويحرمها من حقها الطبيعيّ في التشكل والنمو والتطور، فثمة التباسات كبيرة ذات طبيعة مفهوميّة بين حدود النظرية وحدود الإجراء؛ لا يمكن أن تنتهي إلى نهاية طبيعيّة منتجة، وينبغي معاينة هذا الأمر تحقيقاً لرفد المفهوم بما يحتاج من دقة وموضوعيّة وأناة؛ تعود عليه بما يحتاجه من وضوح وتجل وفعاليّة داخل الميدان.

صارت منطقة «النظريّة النقديّة» بسعتها وتمدّدها وقوّة حضورها العالي لدى كثير من المشتغلين في هذا الحقل المعرفيّ والإبداعيّ النوعيّ هي الهدف الأسمى، وهي المقصد الرئيس لتحرير المفهوم وتكريس أفعاله في الميدان وتجلّيه الفاعل في التعاطي مع المفاهيم المجاوِرة، فتعدّدت النظريات النقديّة وتنوّعت وتوزّعت وانشطرت وتشقّقت وتناثرت؛ وصار لها وقع كوقع حوافر الخيل عندما تخوض معارك ضارية من الصعب توقّع نتائجها، فاختلط حقّاً الحابل بالنابل -كما يقولون- إلى الدرجة التي ضاعت فيها آليّات التعريف والتحديد والتدقيق ضياعاً مُخيفاً، وأضحى من الصعب الوثوق بما تعكسه النظريّات المختلفة من مفاهيم تحيط بالظاهرة وتقاربها بوجهات نظر متعدّدة يصعب الاطمئنان على سلامتها المفهوميّة.

ليس من العسير -في نظرنا- العودة إلى الجوهر الحقيقيّ الفاعل للعمليّة النقديّة في تعريفها المأخوذ من المرجع اللغويّ لمفردة «نقد»، كي يحيلنا فوراً على منطق «الإجراء الكاشف» لا «التنظير الناشف» في أولِ التقاطةٍ عمليّة لتحديد المفهوم وأبرزها، بما يعني لنا أنّ النقد الأدبيّ في جوهر فاعليّته القرائيّة هو عمليّة إجرائيّة تتقصّد النصوص الأدبيّة وظواهرها الفنيّة والجماليّة والثقافيّة، وتتداخل معها للكشف عن جواهرها بآليّات نقديّة تنطلق من شخصيّة الناقد لا من عتبة النظريّات، فلا سبيل أمام النظريّات سوى اقتراح مجموعة منتخبَة من الآليّات والأدوات التي يلتقطها الناقد كي يوظّفها في سياقات ممارسته الإجرائيّة.

تبدأ الشخصيّة النقديّة بوصفها العامل الحاسم في فضاء القراءة بحرث النصّ الأدبيّ؛ والتوغّل الحرّ في أعماقه بروح من الثقة والرغبة والمحبّة والجرأة، للوصول إلى الجوهر النصيّ العميق وهو يتكشّف بين يدَي القراءة مستجيباً لقوّتها وكفاءتها وجدواها، وما النظرية على وفق هذه الرؤية سوى نتيجة طبيعيّة تراكميّة لهذا الإجراء الواعي القائم على كثافة الموهبة، وحساسيّة المعرفة، وحريّة الممارسة، والخبرة العارفة، والأصيلة.

ينبغي أن ينتهي هذا الإجراء النقديّ -في تراكم خبرته المتمثّلة بنصوص نقديّة خصبة وعالية المستوى- إلى إفرازات نظريّة معيّنة تحاكي القواعد والقوانين والتقاليد والأسس، يمكن العمل عليها في إطار عمليّة إعادة تركيب وتطوير وتشبيك وتعضيد ذات طبيعة فلسفيّة لإنتاج النظريّات المطلوبة الخاصّة بجوهريّة المفهوم النقديّ، بالمعنى الذي يقود إلى قناعة راسخة أصيلة تتمثّل في أنّ الإجراء هو الذي يقود إلى النظريّة نحو الميدان وليس العكس، فمفهوم النظريّة يتحرّك في محور الفلسفة أولاً ويمكن تحويله إلى محاور الإبداع؛ بعد سلسلة إجراءات تطبيقيّة تسهم في تكييف آليّات النظريّة كي تناسب فضاء الإبداع.

يجب أن تأتي النظريّات النقديّة الخاصّة بالتجارب الأدبيّة من رحم هذه التجارب النقديّة الإجرائيّة ووحيها وروحها وانبثاقاتها الفنيّة والجماليّة، لا من خارجها -مهما كانت هوية الفاعل النظريّ في إنتاجها- كي لا تبقى غريبة على الجوّ النصوصيّ الأدبيّ لأجناس الأدب كافّة، بما يعني أنّ الإجراء النقديّ هو الأصل في مقاربة مفهوم النقد وليس التنظير القائم على مرجعيّات فلسفيّة على الأغلب، قد يتلاءم بعضها مع حيويّة النصوص الأدبيّة وعناصر تشكيلها ذوات الخصوصيّة المعروفة، في حين لا يتلاءم البعض الآخر معها على نحو يضع كثيراً من العِصي المعطِّلة في دولاب العمليّة النقديّة، ويقوّض جزءاً مهماً من عملها النقديّ الحرّ الذي يعوّل عليه القارئ في فعاليّة تلقّيه للنصّ النقديّ الإجرائيّ.

لا يكتمل مفهوم القارئ بوصفه ناقداً من غير أن يحصل على محتوى «الشخصيّة النقديّة» القادرة على احتواء العمليّة النقديّة في أكفأ صورة، حيث تجمع هذه الشخصيّة بين الموهبة في أعلى درجات وعيها وصيرورتها الأدائيّة، زائداً ما يتطلّبه ذلك من صنوف المعرفة التي تحوّل الموهبة إلى استعداد راقٍ يتوفّر على درجة نوعيّة خاصّة من الأداء النقديّ، يجعل من الممارسة سلوكاً استثنائيّاً قادراً على تفكيك شفرات النصّ في فعاليّات إجرائيّة فنيّة وجماليّة، تحقّق لمفهوم النقد الجزء الأكبر من مقاصده وغاياته وتطلّعاته الأدبيّة.

تختصر الممارسة النقديّة الإجرائيّة مفهوم النقد في أوضح صوره وأجلى أشكاله بما يقرّب مجتمع التلقّي من فهم جوهر النصّ الأدبيّ وحساسيّة الظاهرة الأدبيّة، ليكون الإجراء في هذا المقام مصدراً أساسيّاً ومركزيّاً لوضع حدود المفهوم النقديّ، في حين تبقى النظريّة حالة أوليّة تعرض آليّاتها وأدواتها على الشخصيّة النقديّة لاستخدامها كلّما وجدت سبيلاً إلى ذلك، من دون أن تحظى بطاقة الهيمنة على مقدّرات الممارسة النقديّة التي تنتصر في نهاية المطاف لموهبة الشخصيّة النقديّة وخبرتها وكفاءتها، على النحو الذي ينعكس ذاتيّاً ومعرفيّاً على طبيعة القراءة النقديّة وما تتركه من نتائج في أرض الممارسة الحرّة الناشطة.