سيكولوجية الجماهير

ثقافة 2023/05/16
...

  المؤلف غوستاف لوبون

هناك علم يستخدم مصطلحات علم النفس بطريقة أخرى، إنه علم النفس الاجتماعي، وقد أصبح أحد أهم العلوم الإنسانية. ويعد (غوستاف لوبون) أول من تكلم في هذا العلم بكتابه الذي بين أيدينا؛ حيث أصبح الكتاب مرجعا مهما لفهم نفسيات الجماهير، وطريقة تفكيرها، والطرق التي تتأثر بها وتتحرك بناءً عليها. ولا نبالغ حين نقول إن الكتاب يعد دليلا مرجعيّا.

استخدمه الحكّام وقادة الحركات الجماهيرية لفهم نفسيات الجماهير وتوجيهها نحو الهدف الذي يريده الزعيم، وخير مثال على ذلك، الجماهير الغفيرة التي وظّفها (هتلر ) في الحرب العالمية الثانية.

بل إن (لوبون) نفسه أصبح وجهة ومزارًا لزعماء العالم، يتوجهون إليه ويتناقشون معه في محتوى كتابه.

ورغم مرور ما يقارب الـ 150 عامًا على تأليف الكتاب، ما زال محافظًا على زخمه وحضوره بين أوساط المثقفين.

ويقدم الكاتب إجابات واضحة للعديد من الأسئلة المثارة حول التجمعات الجماهيرية مثل: كيف تتهيج الجماهير؟ وكيف تتكون الجماعات الثورية في الأصل؟ ما الذي يصهر الجماهير نحو هدف واحد؟ أهي عقائد معينة أم الدين بشكل رئيس؟ ما دور الزعيم أو القائد في الثورات؟ والأخطر من ذلك هل الجماهير عاقلة وواعية بالطبيعة وديمقراطية أم متهيجة وثائرة؟.

1 - عصر الجماهير

إن الانقلابات الكُبري التي تسبق عادةً تبديل الحضارات تبدو وكأنها محسومة من قِبَل تحولات سياسية ضخمة، ولكن الدراسة المتفحّصة لهذه الظواهر تكشف أن السبب الحقيقي هو التغيّر العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. 

إن الأحداث الضخمة التي تَتَناقلها كتب التاريخ ليست إلا نتاجًا للمتغيرات اللامَرئيّة التي تصيب عواطف البشر. 

إن الفترة الحالية هي فترة التحوّل والتبدّل ويشكّل جذرها عاملان أساسيان هما: هدم المعتقدات الدينية والسياسية والاجتماعية، وخلق شروط جديدة كُليًّا بالنسبة للوجود والفكر. إن العصر الحديث يُمثّل فترة انتقالية وفوضوية وليس من السهل التنبؤ بما سيتولد عنها مستقبلًا.

2 - الخصائص العامة للجماهير

إن كلمة (جمهور ) تعني في معناها العادي تجمّعًا لمجموعة من الأفراد، أيًّا كانت هويتهم، ولكن من وجهة النظر النفسية؛ ففي بعض الظروف المعينة يمكن لِتَكَتُّل من البشر أن يمتلك خصائص جديدة تختلف عن خصائص كل فرد يشكله، عندئذٍ تتشكل روح جماعية، عابرة ومؤقتة وهو ما سأدعوه (الجمهور المنظم، أو الجمهور النفسي)، ويصبح خاضعًا لقانون (الوحدة العقلية للجماهير ).

3 - أفكار الجماهير

أيًّا تكن الأفكار التي تُوحَي للجماهير أو تُحرَّض عليها، فإنه لا يمكنها أن تصبح مُهَيمِنة إلا بشرط أن تتّخِذ هيئة بسيطة جدًا؛ فَبِمُجرّد أن تنغرس فكرة ما في روح الجماهير فإنها تكتسب قوة لا تقاوَم، ولا يكفي مجرد البرهنة على صحة فكرة ما حتى تفعل مفعولها، صحيح أنه يمكن للحقيقة الساطعة أن تَلقي آذانًا صاغية، ولكن سَتَرَي نفس الشخص بعد بضعة أيام يعود إلى مُحاجّاته القديمة وبنفس الألفاظ تمامًا؛ لأنه واقع تحت تأثير الأفكار السابقة التي تحولت إلى عواطف وتَرَسَّخت؛ فالجماهير تشبه إلى حد ما النائم الذي يتعطل عقله مؤقتًا ويَترُك نفسه عُرضة لانبثاق صورة قوية ومكثفة؛ فعلى قاعدة الخيال الشعبي تأسست قوة الدول. إن معرفة فن التأثير على مُخَيِّلة الجماهير تعني معرفة فنّ حُكمها.

4 - العوامل المـُشكِّلة لعقائد الجماهير

إن العوامل التي تُحدّد آراء الجماهير وعقائدها ذات نوعين: عوامل بعيدة، وعوامل قريبة، ومن بين العوامل البعيدة: العِرْق، وكذلك التقاليد الموروثة؛ فالجماهير كائن عضوي، وككل الكائنات العضوية؛ لا يمكن تغيّره إلا بواسطة التراكمات الوراثية البطيئة؛ فالقادة الحقيقيون للشعوب هم تقاليدها الموروثة، وبدون تقاليد ثابتة لا يمكن أن توجد حضارة، وأيضًا الزمن؛ فهو الذي يطبخ آراء الجماهير على نارٍ هادئة؛ فبعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما؛ تبدو مستحيلة في فترة أخرى؛ فالنُّظم السياسية لا تنهار في يومٍ واحد.

5 - محرّكو الجماهير

ما إن يجتمع عدد من الكائنات الحية، حتى يضعوا أنفسهم بشكل غريزي تحت سُلطة زعيم ما؛ يلعب دورًا ضخما بالنسبة للجماهير البشرية؛ فالجماهير لا يستطيع الاستغناء عن سيّد، يحصل من الجماهير على طاعة وانقياد أكثر مما تحصل عليه أي حكومة.

6 - محدودية تغيّر عقائد الجماهير وآرائها

هناك العقائد الإيمانية الكُبري والتي تدوم قرونًا عديدة والتي ترتكز عليها حضارة بأكملها، وتَشَكُّلها وتلاشيها يمثّلان لكل عِرق تاريخي نقاط الذُّروة في تاريخه، ومن الصعب جدًا تدمير هذه العقائد بعد تشكيلها إلا بعد ثوراتٍ عنيفة، وبعد أن تكون العقيدة قد فقدت تقريبًا كل هَيْمنتها على النفوس، وهذا يبدأ من اللحظة التي يأخذ فيها الناس بمناقشتها ونقدها.

وفوق هذه العقائد الثابتة تَتَموْضَع طبقة سطحية من الآراء والأفكار التي تُولَد وتموت باستمرار، ومدة دوام بعضها مؤقتة جدًا، وأكثرها أهمية لا تتجاوز مُدّتها حياة جيل واحد.

7 - تصنيف الجماهير

يمكن تقسيم فئات الجماهير إلى: جماهير غير متجانِسة، ومنها جماهير بسيطة، كجماهير الشارع، وجماهير غير بسيطة، كالمجالس البرلمانية، وفي ما عدا عامل العِرق فإن التصنيف الوحيد المهم بالنسبة للجماهير غير المتجانِسة هو الفصل بين كونها بسيطة وغير بسيطة؛ فالشعور بالمسئولية لدى الثانية متطور، وهو يَفرِض على أعمالِـهم توجُّهات مختلفة غالبًا. وجماهير متجانسة، وتشمل الطوائف، الزُمَر، الطبقات، أما الطائفة، فتحتوي على أفراد من ثقافات ومهن مختلفة ولا يربطها إلا العقيدة والإيمان كالطوائف الدينية، وأما الزُمْرَة فهي أعلى درجات التنظيم التي يقدر عليها الجمهور؛ فالزُمرة لا تشمل إلا أفرادًا من نفس المهنة كالزمرة العسكرية، وأما الطبقة فتتشكل من أفراد ذوي أصول مختلفة، ولا يجمعهم إلا الاشتراك في بعض المصالح وبعض عادات الحياة المتشابهة كالطبقة البورجوازية.

8 - الجماهير المُجرِمة

إن جرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريض ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها يَقْتَنِعون فيما بعد أنهم قد أطاعوا واجبهم، ويمكننا أن نستشهد على ذلك بحادث مقتل مدير سجن الباستيل؛ فقد كان قاتِلُه طبّاخًا مُتَجوِّلًا وذهب إلى الباستيل لكي يرى ما يحصل هناك، ولما رأى الجميع متفقين على قيامه بهذه المهمة، وأنه يؤدي عملًا وطنيًا، قام بقتله وقطع رأسه.

9 - الجماهير الانتخابية

يمكن إغراء هذه الجماهير بعدة أساليب منها، أن يمتلك المُرشَّح الهيبة الشخصية، وهذه لا يمكن تعويضها بأي شيء آخر. 

وامتلاك الهيبة وحدها لا يكفي لضمان النجاح، وإنما ينبغي على الـمُرشَّح أن يَتَملَّق الناخب ويغـمُرَه بأكبر قدر من الوعود، كذلك ينبغي عليه سحق الـمُرشَّح المضاد عن طريق تكريس الاتهامات بواسطة التأكيد والتكرار.