الشعراء الصعاليك من منظور سايكولوجي

ثقافة 2023/05/17
...

أ.د. قاسم حسين صالح*

   تعني (الصعلكة) وفق القاموس المحيط بأنها “صفة تطلق على الصعلوك الذي يعني الفقير،وتصعلك يعني افتقر وصعلكه يعني أفقره”.ويعني الصعلوك وفقاً لمعجم لسان العرب  “الفقير الذي لا مال له ، وزاد الأزهري ، ولا اعتماد ، وقد تصعلك الرجل أي افتقر” “. وتدور معظم المعاجم العربية على هذا النحو في تعريفها للصعاليك بأنهم الفقراء البائسون. 


  فهل هم كذلك فعلاً؟..وهل أن ظاهرة الشعراء الصعاليك في الجاهلية لم تعد موجودة في عصرنا الحاضر؟.ولماذا لم تأخذ حقها علمياً مع أنها ظاهرة اجتماعية سيكولوجية؟

استطلاع 2012

 في( 16 /12  / 2012 )  استطلعنا رأي  شعراء ونقّاد عراقيين بهذا السؤال:


•  ما مفهومك للشعراء الصعاليك؟. ومن أشهرهم في العراق الحديث؟.

  وكان الهدف منه معرفة ما إذا كانوا يحملون تصوراً موحّداً عن هؤلاء،ولغرض آخر يخص تحليلنا السيكولوجي لظاهرة شعرية تمتد إلى عصر الجاهلية،وصولاً إلى عصر الحضارة..ولنقل من عصر عروة بن الورد إلى عصر عبد الأمير الحصيري وجان دمو.


   أجاب الشاعر الراحل الفريد سمعان بأن الشعراء الصعاليك “كانوا يعملون بحرية وانطلاق إكثر من سواهم،وعدم التقيُّد بالتقاليد الاجتماعية،وجاءت تسميتهم بالصعاليك من خلال احتقار الأثرياء لهم لتشويه سمعتهم”، فيما رأى الناقد ياسين النصير أنهم “هم الذين قلبوا مفهوم المرأة من كونها تابعة إلى وجود وكيان وفكر”، فيما وصفهم الناقد دكتور محمد صابر بأنهم” اولئك الذين يتماهون مع ذواتهم على نحو مطلق ويستجيبون لأهوائهم الشعرية بلا حدود..يهملون كل شيء إلا رغبتهم في التهام الحياة”. ونظر الناقد ناجح المعموري إلى الصعلوك بأنه “مثقف محتج على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي” ،فيما عدّ الشاعر شاكر محمود سيفو الصعلكة “هروباً كبيراً واغتراباً داخلياً ولربما انهزامياً”،فيما عدّها الناقد طلال حسن “خروجاً عن التيار المتعارف عليه،وليس كل صعلوك مبدع،بل أن بعض أدعياء الأدب يهربون إلى الصعلكة” .

  ولقد كشف الاستطلاع أن كبار الشعراء والنقّاد العراقيين لا يحملون تصوراً موحداً عن الشعراء الصعاليك.وأنهم اختلفوا أيضاً بخصوص الشعراء الصعاليك في العراق الحديث ،فمنهم من قال بأنه”لا يوجد أحد بعد الحصيري وجان دمو وكزار حنتوش وعقيل علي،لأنهم هم وحدهم كانوا يشكلون مشهداً شعرياً”،ومنهم من أضاف لهم حسين مردان،واختلف معهم الفريد سمعان إذ وصف مردان بأنه لم يكن صعلوكاً بل فقيراً أبيّ النفس يحب الحياة،والحصيري كان بائساً قتل نفسه بيده،وأن الصعلكة الآن تقوم على قيم مهزوزة. 

استطلاع عام 2023

في (5 /5 /2023 ) توجهنا بنفس الاستطلاع إلى عدد من الشعراء والنقاد..إليكم نماذج من إجاباتهم:


*حميد كوراجي .الشعراء الصعاليك في عصرنا هم الشعراء الذين تنبذهم الأحزاب والسلطات والجمعيات، أو هم من ابتعد عنها لسبب ما. أي الشعراء الذين لا تدعمهم جهة معينة. لا تحضرني أسماؤهم الآن ، لكن نصيف الناصري نموذجهم في السويد،وسأوافيك أكثر حين أعود للعراق.


*عدنان أبو أندلس.

  الصعلكة ظاهرة تمرد قديمة بدأت بوادرها منذ العصر الجاهلي ومروراً بكل العصور المتعاقبة، كانت ساخطة على الواقع والتخلص منه ،هي قديمة وامتدت بعد ذلك تلاشت من أصقاع المعمورة  لعدم تقبلها.كان آخرهم صباح العزاوي .ومن أشهرهم في العراق .جان دمو،حسين مردان. والمربع الذهبي “كزار حنتوش،حسن النواب،حسين علي يونس،نصيف الناصري” وآخرون. كتبت عنهم بحثاً تأصيلياً بعنوان “ ظاهرة الصعلكة من الحضور الفاعل وإلى الغياب الماثل - صعاليك بغداد أنموذجاً “وتحدثت عنه في شبكة التواصل على مدار ساعة ونصف..مع تحياتي


*رائد ستار.

هناك مفهوم شائع عن الصعاليك هو أن الصعلوك إنسان متمرد خارج عن جماعة أو قبيلة أو عشيرة أو تنظيم اجتماعي  يهيم في الصحراء يسلب ويقتل و يعيش منبوذاً وحيداً. وهذا المفهوم القديم هو مفهوم مظلِّل لأنه لا ينصف الصعاليك.... 

عرض المزيد


عقيل هاشم.

الصعلكة ظاهرة فكرية اجتماعية ضد كل سلطة غاشمة في المجتمع.. حركة ثائرة تنتصر للهامش .. غالباً ماتكون سلمية ومن وسائلها الأدب والفن الساخر .. وينتهي أصاحبها نهاية مأساوية في الطرقات أو على ضفاف الأنهار مثل قربان في عيد الأضاحي..أرشِّح الشاعر حسين مردان

 

*ذياب آل غلام.

اعتقد أن الصعلكة مفهوم تاريخي وجدلي . وأهمهم حسب رأي الشخصي ( محمود البريكان صعلوك انطوائي إبداعي) ،مظفر النواب ،و{ كاظم الحجاج )..فكلما أقرأ له نصاً يدفعني لأن أقرأ عروة بن الورد المدافع عن المستضعفين والفقراء والوطن . 


* قاسم مزبان.  أشهرهم حسين مردان وعبد الأمير الحصيري والشاعر البوهيمي الكردي عبد القادر الناصري 

 تحليل سيكولوجي

 نميل في تحليلنا هذا إلى فرز الشعراء الصعاليك بصنفين:صعاليك “البداوة” وصعاليك “الحضارة”،والمشترك السيكولوجي الذي يجمعهم هو الشعور بالمظلومية والاضطهاد ،والاختلاف بينهم في أسلوب التعبير عن هذا الشعور.  فشعراء صعاليك البداوة شكّلوا جماعات تستهدف الأثرياء واعتمدوا الغزو لأنه كان أسلوب العيش السائد في زمانهم،وما كانوا بمجموعهم شعراء،فالشاعر عروة ابن الورد الملقَّب بعروة الصعاليك كان يجمع الفقراء ويغزو بهم،وترأسهم لا لكونه شاعراً بل لأنه فارس وكريم،مارس الغزو لا على الأسلوب الشائع بزمنه،الجاهلية، حيث قبيلة تغزو قبيلة بل استهدف الأغنياء فقط. 

  ومع أن الشعور بالظلم واللاعدالة الاجتماعية كانا الدافعين الرئيسين لتمردهم،لكن أن يوصف هذا التمرد بأنه ثورة ضد الفقر وسخرية من واقع لا يحترم كرامة الإنسان،يمكن أن يكون إسقاطاً من قبل الشعراء والنقاد العراقيين المعاصرين على حركتهم،أي أنهم نسبوا إليهم انفعالات ما كانوا هم يشعرون بها..وهذا هو الاختلاف بين شعراء صعاليك البداوة وشعراء صعاليك الحضارة.  فما يميز الصنف الثاني”صعاليك الحضارة” أنهم يشعرون بحيف الاستحقاق ،وأن شعورهم كان ذاتياً وأنهم يختلفون عن صعاليك البداوة في وسيلة التعبير.فصعلوك البداوة كان يغزو ويحتمي بالصحراء”متشرداً” فيما صعلوك الحضارة لا يمتلك فرصة الإفلات من السلطة،  فكان يسّرب أو ينفّس عن تمرده أو احتجاجه بالسخرية من الواقع في شعر يُصاغ بمفارقات نقدية “كريكتورية” كالتي تمتع بها الشاعر حسين مردان،أو الهروب من الواقع والارتداد إلى الذات والانتحار التدريجي بالإدمان على الكحول كما حصل لعبد الأمير الحصيري،أو مغادرة الوطن والموت كمداً في بلاد الغربة كما حصل لجان دمو.

  

 إن مثقفينا بمن فيهم كبار الأدباء والشعراء يغفلون،للأسف، دورعلم السيكولوجست المتخصص  بهذا الشأن،برغم أن الشعر انفعالات وأحاسيس وخيالات..هي من اختصاصه،وأنه ما من أحد أبرع من السيكولوجيين في تحليل الشخصية وفهم الإبداع،وتلك دعوة كنّا وجهناها لاتحاد الأدباء بفتح قناة على علم يفهمهم بأنفسهم وينضج تجربتهم  ويحتوون سيكولوجياً من يعاني الاغتراب قبل أن يصاب باكتئاب حاد أو يقدم على الانتحار..لاسيما أن شعراء الصعاليك لن ينتهوا ما دام هنالك فقر لكثرة مقابل قلّة تنعم بالرفاهية،وما دامت هنالك سلطة سياسية لا تمنح الموهبة الشعرية استحقاقها،حتى لو كانت ديمقراطية..وفي موطن الشعر والشعراء!