من سومر إلى الألكوبوند.. سؤال العمارة والهويَّة العراقيَّة

ثقافة 2023/05/17
...

 البصرة: صفاء ذياب

“يجب أنْ يشكّل الفن والناس كياناً واحداً. لم يعد الفن ترفاً للقلّة، ولكن يجب أنْ تتمتّع به وتعاينه الجماهير العريضة. فالهدف هو تحالف الفنون تحت جناح العمارة العظيمة”.

يخبرنا برونو تاوت في العام 1918، بأنَّ العمارة تمثّل سياقاً خاصاً من سياقات الفن عموماً، لا سيّما أنّها تتشكّل من أبعادٍ كثيرة، من أهمها المكان والزمان والبيئة التي تنتجها، وهكذا ستختلف فنون العمارة من مكانٍ لآخر، ومن زمانٍ لآخر. وهذا ما حدث مع العمارة العراقيَّة التي عاشت تحوّلات عديدة، فبعيداً عن العمارة السومريَّة المعروفة، مرّت عمارتنا انطلاقاً من العمارة الإسلاميَّة، مروراً بالعباسيَّة والعثمانيَّة، وصولاً إلى الرؤى البريطانيَّة في العمارة التي كان من أشهرها شارع الرشيد ومحلات الحيدر خانة والسراي القديم وغيرها من المحلات. الأمر نفسه نجده في مدينة البصرة، بعمارتها الخاصة، وشناشيلها التي تختلف عن شناشيل بغداد القديمة، وهكذا في الموصل وأربيل وغيرها من المدن العراقيَّة.

وربّما يحقُّ لنا أن نتساءل، في هذا العقد من القرن الحادي والعشرين، بعد التطوّر الهائل في الفنون عموماً، والعمارة على وجه التحديد، لا سيّما بعد ما قدّمته المعماريَّة زها حديد من فنٍ مغايرٍ قلب مفاهيم العمارة، ما دفع لاختلاق ترسانة جديدة خاصة لتنفيذ أعمالها التي لم يكن لها أنْ تنشأ بمفاهيم الخرسانة الكلاسيكيَّة.

وما أثار إشكاليَّة الهويَّة المعماريَّة العراقيَّة الآن، منشور للمعماري الدكتور أسعد الأسدي الذي تساءل عن العمارة العراقيَّة الآن، وما الذي تفوّقت به عن عمارة مكية والجادرجي وعوني، كما في أبنية جامع الخلفاء، وانحصار التبغ، والجامعة المستنصريَّة. تلك أبنية، كانت تنشغل بالسؤال: من نحن؟ لا أبنية تلهث خلف السؤال: من هم؟ على حدِّ قوله.

 عمارة تخصّنا

هذا الموضوع دفعنا للتوسّع أكثر في سؤال الدكتور أسعد الأسدي نفسه، عن فكرته للهوية العراقيَّة في العمارة، والإجابة عن أسئلته، قائلاً: لم تكن تجارب العمارة الحديثة في العراق عادية أو قليلة الثمار، وقد قدّم الكثير منها دروساً عميقة ومتبصرة في العناية بقيمة أن تمتلك عمارتنا نسختها المحليَّة، في حين سعت عمارة الحداثة العالميَّة إلى التحرّر من سلطة التقاليد والطرز المحليَّة، واختارت إنتاج عمارة بلغة جديدة، غاب عنها الانشغال بمقولة الانتماء، الأمر الذي عرّضها إلى النقد الشديد. وكان لتوجهات عمارة الحداثة خطورة اكتساح أنماط العمارة الإقليميَّة، غير أنَّ ما قدمته العمارة الحديثة في العراق، كان يَعِد بانعتاق واضح من سلطة العمارة العالمية، والتعمّق في إنتاج عمارة تنشغل بعلاقتها مع المكان وتراثه المعماري، فقد اعتنت في العديد من تجاربها في صنع عمارة تستجيب للحوار مع السؤال (من نحن)، وكيف يمكن أن نصنع (عمارة تخصّنا)، بما يمثل نبوءة ذكيّة في التحرّر من عالمية العمارة الحديثة. ولا شك فإنَّ عمارتنا الحديثة المنتظمة في مهمة ثقافية تدرك معطيات بيئتها الجغرافيَّة والثقافيَّة، يمكنها أنْ تكون مؤثّرة في صنع عمارتنا المعاصرة، من دون أن يكون في ذلك ضمور لحصة المعماري المعاصر في أن يصنع أبنيته، إذ عليه أن لا يكتفي بمقترحاته، من دون التواصل مع جهود من سبقه، ممن ترك أبنية هي علامات مميّزة تمتلك الكثير من القيمة. وقد يكون من أسباب ضمور التواصل مع نتاج عمارتنا الحديثة، هو تنوع التوجهات الأسلوبيَّة المعاصرة، وتعدّدها، وطموح كل معماري أن يصنع أسلوباً يميزه، وهو حال تغيب فيه سلطة أسلوب واحد، يمكنه أن يضمّ نتاجات مختلفة، تتوسم أهدافاً مشتركة.

اختفاء الطبقة الوسطى

ويشير المعماري الدكتور خالد السلطاني، إلى أنَّ كثيراً من المتابعين للعمارة العراقيَّة يشعرون بمثل هذه الفجوة، ما بين ما أنتج سابقاً وما “ينتج” الآن. إنَّها فجوة معرفيَّة وثقافيَّة وحضاريَّة وبالطبع فجوة مهنيَّة، تتسيّد المشهد المعماري المحلي. والسبب واضحٌ كما يراه (.. ويزعم أنَّ كثيراً من المتابعين يرونه أيضاً) ويكمن في اختفاءٍ تامٍ للطبقة الوسطى وتغييبها عنوة عن المشهد المهني. فما نراه هو تعمّد “اجتراح” التجاوزات وعدم مراعاة الضوابط وتجاهل المعايير والقواعد التي تنظّم العمل المهني (والمعماري بصورة خاصة) وترتقي به إلى منتجٍ يتساوق مع المعايير المعاصرة المعمول بها في غالبية بلدان العالم. معلوم أنَّ ممثلي الطبقة الوسطي هم حاملو جذوة التقدّم والمعرفة ويشيرون (بحكم مستوى ثقافتهم المهني الرفيع) إلى مختلف الأساليب والطرق لتجاوز محنة الوضع الراهن وإيجاد حلول منطقية وناجعة للحالة المزرية التي يمرُّ بها البلد بضمنها النشاط المعماري. وبالتالي فإنَّ اختفاء النشاط المتنوّع والمتعدّد لتلك الطبقة، يفضي لا محالة إلى مثل هذا الوضع الذي نحن فيه. والأنكى في كلِّ هذه “الدراما” غير المفهومة والغامضة وحتى.. غير “الوطنية” بأنَّ المتنفذين في الحكم وأصحاب القرار سعوا ويسعون إلى تغييب واخفاء ممثلي تلك الطبقة الواعية وتفريغ الوطن منها ليتسنى لهم الإيغال في نقض الضوابط وعدم احترام التعليمات والشروط المهنية التي تجعل من النشاط المعماري نشاطاً صائباً وناجحاً يمكن له أنْ يسهم في خلق بيئة مبنية مميزة ومبدعة. ولعلَّ في هذا السبب تكمن محنة العمارة اليوم في بلدنا واختفاء نماذج معمارية مميزة ومبدعة تثري المشهد المهني، وبالتالي أفضت إلى اختفاء الهويَّة المعماريَّة.

 انقطاع الفنون

ويطرح الكاتب والناقد الفني سهيل سامي نادر فكرته بأنّ كلَّ مقارنة تعرج. لا مقارنة إذن، بل وصف ما أسميه حالة العمارة.

مضيفاً: ليست العمارة مجرد أبنية تنبثق في فضاء المدينة، بل هي الفضاء الحضاري للمدينة. إنَّها تشير إلى ثقافة وطرز عيش وذائقة وقياسات ونسق من أفكار مولدة، وإنتاج فني مصاحب، وقوانين وإجراءات وتعليمات وقواعد ضبط وتخطيط وتوقعات.

ويتساءل: ما الذي يحدث الآن؟ انقطاع بين الماضي والحاضر. تجاوز خطير على المخطّطات الأساسيَّة للمدينة، تجاوز على قوانين البناء، ضياع شخصيَّة المدينة ولونها الوطني والعاطفي، نغولة في المواد والذائقة، عشوائيات، الاعتداء على الملكيَّة الاجتماعيَّة، تحويل مساكن الطبقة الوسطى إلى ما يشبه المقابر الضيّقة والتعدّي على الحدائق المنزليَّة، والمساحات الخضر، وتجريف البساتين، واستخدام الفضاء العام للمدينة استخداماً سياسياً يمثل الجماعة الحاكمة.

إنَّ جميع انجازات الماضي المدنيَّة تبدَّدت. ومعروف أنَّ انجازات المعماريين العراقيين جاءت في سياق نهوض وطني عام شمل الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والتعليم، أسهمت فيه الدولة باستخدام الريع النفطي في التنمية بكفاءة. هذا النهوض أفضى إلى ظهور نخب ثقافيَّة عملت في حقولٍ متنوعة وسّعت من دلالات هذا النهوض باتجاه أفقٍ مدني جديد.

ربطت تلك النهضة ما بين الحداثة والحاجات المحليَّة وتعبيراتها الجماليَّة والبيئيَّة، في حين لا تؤمن العقيدة السياسيَّة للمنتفعين الحاليين بالحداثة ولا بالتراث التعبيري الوطني، وتحط من القيم المدنيَّة بتحويل المدينة إلى قطاعات منفصلة تسودها العلاقات الريفيَّة وتقاليد الجماعات المعادية للدولة كالعشيرة والطائفة.

حوار الحضارة

ويبيّن الفنان صلاح عباس أنَّ الأسئلة الخاصة بالفنون المعماريَّة، تعدُّ من الأسئلة المستدامة، وكلَّما تمت الإجابة عنها تنبثق أسئلة أخرى أكثر تعقيداً، ذلك لأنَّ هذه الفنون تتداخل موضوعيّاً مع الأفكار الجديدة والرؤى الفلسفية المتفاعلة مع معطيات الحياة العلمية والمعرفية المتجددة على الدوام، وفي فنون العمارة العراقيَّة المعاصرة، التي ترسّخت منذ تأسيس الدولة العراقيَّة سنة 1921 وتنامت واشتد بريقها لمعاناً من خلال وجود أسماء رياديَّة كثيرة جداً مقارنة مع ما موجود من أسماء لرموز الفنون المعماريَّة في الدول العربية.

إنَّ إحدى أهم خصائص العمارة العراقيَّة، تكمن في كونها متسمة بالجدة والاختلاف، مع الفارق الذي يكسب الأنماط المعماريَّة الطابع الفني المؤكد للأصالة، ربَّما يكون استجابة للدعوة التي قدمها الفنان جواد سليم في أحد بيانات جماعة بغداد للفن الحديث التي تأسست مطلع العقد الخامس من القرن الماضي، ففي تلك السنوات كانت الأنشطة المعماريَّة على أشدها وكان التنافس الفني والإبداعي قد بلغ ذروته، لقد كانت واجهات المباني تؤكّد صلتها بالموروث الرافديني والعربي والاسلامي، من خلال الأقواس والهياكل المتعامدة وتوظيف المواد الخام محلية الصنع وسوى ذلك.

أمَّن الرخاء والازدهار المالي المتأتي من واردات النفط وبخاصة في مطلع العقد السادس أوضاعاً اقتصادية وفكرية وفلسفية جديدة على الحياة الثقافية في العراق، ما بعد الجمهورية الأولى، ممَّا حفّز ذلك على أخذ الدور المناسب ضمن حلبة الاشتباك الفني والثقافي على نحو مساير للمستجدات في العالم، وأخذت عجلة الفن المعماري بالتقدّم نحو الأمام دائماً، بيد أنَّ الوعكات الصحية في السياسية والانتهاكات المفجعة من قبل السلطات المتتابعة حجبت هذا الفن وحجمت دوره وتأثيره، ناهيك عن تاريخ الحروب وما يطلق عليه بتاريخ الأسى، الممتد لسنوات طويلة، ذلك كلّه أسفر عن أنواع من الهلع والخيبة والخسائر الفادحة، ومما يؤسف له أن الاوضاع البائسة منذ الاحتلال الامريكي للبلاد سنة 2003 ولحد الان لم تشهد المدن العراقيَّة أي اهتمام بكل افرع الثقافة والفنون ولا سيّما الفنون المعماريَّة سوى بناية المصرف المركزي في منطقة الجادرية ببغداد وهو من تصميم المهندسة الراحلة زها حديد.

ويعتقد عبَّاس أنَّ مشروع الدولة المدنيَّة يبدأ من لحظة الانتباه لأهمية الفنون المعماريَّة وأخذ الدور في الإنجاز الإبداعي والازدهار الحضاري، والتنافسي وذلك لن يكون إلَّا من خلال فنون العمارة، لأنَّ هذه الفنون قادرة على إطلاق الحوارات الإنسانيَّة والخدميَّة والفنيَّة والجماليَّة وكلّها تنصب في محور التعايش بمحبة ووئامٍ وسلام.