بلاغة التحول بين سامسا وأندرس

ثقافة 2023/05/17
...

جودت جالي


يبدأ محسن حامد روايته الجديدة (الرجل الأبيض الأخير) بمحاكاة لاستهلال رواية كافكا المسخ فيقول: “ذات صباح استيقظ أندرس، وهو رجل أبيض، ليجد أنه قد تحول إلى رجل سمرته داكنة ولا يمكن نكرانها”، تبعه التنويع السردي الخاص به في انطباع الشخصية المفاجئ والاسترسال اللاحق. شعرت بعدم الارتياح لأن أسوأ ما يمكن أن يفعله كاتب هو أن يستهل روايته بمحاكاة لبداية رواية أخرى مهمة لكاتب بمنزلة كافكا.

إن محاكاة بداية المسخ قد يجعلها مهيمنة على مزاج القارئ العادي، وربما غير العادي أيضاً، إذا كان يتذكر تفاصيلها جيداً فتصب كل خزينها على ذائقته وقدرته على التقييم وتصبح موجهة له في التلقِّي والتأويل وهو يقرأ رواية أخرى. قد لا يكون هذا في صالح رواية محسن حامد.

يرى ناقد، ربما ساخراً، بأن الرواية “ لها أجندة إضافية لهز ليس فقط تخيلاتنا السُمّية بل  أفكارنا التقليدية عن الخيال القصصي نفسه” وفي مكان آخر يعلِّق على الجهد الذي يبذله حامد  بأنه محاولة “... ليؤكد لنا أن هذا لا يزال أدباً”(1)، فيما نجد ناقداً آخر يقول إن رواية حامد حولت رواية كافكا إلى رواية عن العِرْق. وأن أندرس يختلف عن سامسا بأنه لم يقرر مواصلة حياته الطبيعية وأن الآخرين لم يروا أن ما حدث له شيء طبيعي (2)، فصديقته أوونا تعبِّر عن دهشتها حين رأته قائلة بأنه يبدو شخصاً آخر ومختلفاً أيضاً، وصاحب العمل يقول لو حدث له هذا لقتل نفسه، ووالده يقف باكياً بكاءً صامتاً أمامه فيما أم صديقته التي تعمل معه في مبنى للألعاب الرياضية، ترى ابنتها في الفراش مع رجل أسمر اللون، وهي المرأة العنصرية، فتتقيأ. إن أندرس ليس الوحيد في تحوُّله، إذ سرعان ما حدث لغيره وبدا التحول اجتماعيا (ووبائياً لأنه لا يوجد مبرر منطقي وواضح سردياً للتحوُّل). يتملَّك القارئ شعور بأن حامد فرض على شخصياته وضعاً غير طبيعي وجعلها تواجه نفسها وحياتها اليومية والآخرين في وضعها الجديد وهي فرصته ليتأمل من خلالهم أموراً شتى ويصوِّر حالات شتَّى. يحدث تعارض ما بين من تحولوا ومن لم يتحولوا، ما بين من حطَّ اللون من قدرهم ومن يعتقدون بوحشية الملونين كأم أوونا، وتجري اضطرابات فيهرب للاختباء في بيت أبيه. وكما اندلعت الاضطرابات في تعسُّف سرديٍ انتهت كخبر نقلته أوونا إلى أندرس. في النهاية نرى أندرس وأوونا يعيشان حياة طبيعية وقد أنجبا بنتاً وأنَّ البيض كلهم أصبحوا سمرانا (لماذا ليس بيضانا؟)، وأن الحياة ليست بهذا السوء. تكون النهاية رومانسية سعيدة ذات مغزى من خلال حديث أم أوونا المعتدل الخالي من العنصرية لحفيدتها عن تاريخ “بياضها”، البياض الماضي، فمن يقرأ الرواية يعرف أنها كانت من بين آخر المتحولين. ما معنى هذا؟ ما الذي أراد حامد قوله من كل هذا؟

بصراحة أنا أرى تشبُّث الكُتّاب الملونين بقضية العرق ثيمة قصصية قد لا تكون في بعض النتاجات الأدبية سوى تفريغ لحالة مرضية، لشعور جماعي بالدونية، أو استثمار ثيمات شائعة ومطلوبة تجارياً من دون أن ينسوا، مدفوعين بالجوع التاريخي لشعب بكامله، تزيين العمل الأدبي هنا وهناك بالمشاهد الجنسية التي لو حذفت لما تأثر النص.  

لقد تحول سامسا إلى حشرة نتيجة وضاعة الحياة التي يعيشها وشعوره بالتسفيل. هذا ما نستنتجه من تفاصيل (المسخ). لكن رواية (الرجل الأبيض الأخير) لم تعطنا سبباً مقنعاً لتحوُّل هذا الرجل الأبيض إلى أسمر، كأن يكون أندرس مثلاً يكره الملونين كرهاً شديداً أو يحبهم حباً شديداً فيستيقظ صباحاً ليجد نفسه واقعاً تحت تسلُّط وهمٍ مرضيٍ فاقمه الحب المغالي أو الكره المغالي فيجعله يتخيل تحوّله هذا من دون أن يتحقق واقعاً. لكن هذا سيغير الثِيمة كلياً ويغير الإيقاع السردي تماماً. لجأ المؤلف إلى استعارة أعجوبة صباح سامسا ربما ظناً منه أنها ستخلِّصه من المعضلة.

لا يمكن لأحد غير كافكا أن يجعل القارئ يقتنع بأن ما حدث لسامسا منطقي ويمكن أن يحدث فعلاً. لكن تقليد سامسا غير ممكن. إن عظمة رواية كافكا من وجهة نظري تتمثل في استثنائية حالة تحوّل سامسا، أو إنمساخه، وبقائها حالة خاصة به فيما نجد تعميم حالة أندرس في رواية حامد.

مع ذلك لا أستطيع أن أخفي تصوراً لصالح هذه الرواية. لا أدري إن كان يوجد من يعتقد مثلي بأن الجنس الأبيض سيذوب في الأجناس الأخرى التي يمثلها المهاجرون إلى دول الغرب. هكذا كأي تطور طبيعي، بايولوجي، لا يحتاج إلى ذكر أسباب أو أنَّ ذكرها ليس مهماً. لماذا لا يكون تصورٌ كهذا وراء كتابة محسن حامد لروايته ولكنه ربما لأسباب معينة في قرارة نفسه لم يرغب في أن يوجِّه الثِيمة والأحداث بحيث يكون هذا التصور واضحاً.


**

The Last White Man, Mohsin Hamid. 2022 *

1)The New York Times Books Review. David Gates, 7 aug 2022

2)Times Literary Supplement. Benjamin Markovits, 2 sept 2022