علم السرد ما بعد الكلاسيكي

ثقافة 2023/05/17
...

  د. نادية هناوي 

يستقي علم السرد ما بعد الكلاسيكي مرجعياته من مصدرين: الأول الدراسات الأمريكية التي ظهرت في أعقاب تأليف هنري جيمس كتابه (فن الرواية the art of novel ) 1907 ومن تلك الدراسات (صنعة الرواية) لبرسي لوبوك 1921 و( فن البلاغة القصصي) لواين بوث 1961 ثم كتابه (بلاغة المفارقة) 1974. والمصدر الآخر الثورة البراغماتية في اللسانيات التي حلت محل البنيوية اللسانية والقواعد التوليدية وأعادت الاهتمام الى دراسة السياق والقضايا الخارج نصيَّة والسيميائيَّة كعلم اللغة الاجتماعي ونظرية الفعل الكلامي والتحليل الوظيفي للسرد التخاطبي والسرد الشفهي والجندر والنسوية.

من هنا كان التوصيف (ما بعد الكلاسيكي) أمرا مهما بالنسبة إلى المدرسة الانجلوامريكية لا لأنه يميزها عن المدرسة السردية الفرنسية بوصفها (كلاسيكية)، بل يؤكد انتساب المدرسة الانجلوامريكية إلى مدرسة النقاد الأرسطيين الجدد أو مدرسة شيكاغو وإليها انتمى نقاد نظرية الرواية الأمريكان مثل برسي لوبوك واوستن وارين ورينيه ويليك وواين بوث ووالاس مارتن وديفيد ديتش وبيتر بروكس وغيرهم.

ومن نقاد مدرسة شيكاغو من درس ما وراء النموذج البنيوي بدءا من مفهوم الموثوقية الذي اجترحه واين بوث عام 1961 وطوره جميس فيلان 2007 بينما اشتغل النقاد الألمان ومعهم جيرالد برنس وهيلس ميلر وستانلي فش ورفاتير وووالكر جبسون وجين هوبكنز على مفهوم القارئ وتعددية القراءة. 

وما بينهما نقاد من جنسيات مختلفة اهتموا بالعمل على تعدد التخصصات والتجاور في العلوم والآداب.  

وإذا كان لنظرية الرواية التي كتبها نقاد مدرسة شيكاغو أن تتطور على يد النقاد الأمريكان والألمان، فإن العمل على تأسيس علم للسرد ينطلق من مرجعيات لغوية وفلسفية وبيداغوجية مختلفة كانت قد تبنته مدرسة النقد الانجلوامريكية. 

ولم تكن النية بالتحول في دراسة السرد من النظرية إلى العلم بالجديدة، فلقد استعمل جيرالد برنس مصطلح (علم السرد) عنوانا لكتاب صدر مطلع ثمانينات القرن الماضي علما أن الشروع بدراسة السرد بوصفه علما كانت قد بدأت قبل جيرالد بعقد تقريبا، بيد أن ما عمد إليه ديفيد هيرمان في سبيل ما بعدية علم السرد والاصطلاح عليه بعلم السرد ما بعد الكلاسيكي، جعل للعلمية دلالة على تقدم مرحلي، القصد منه أن تتبوأ المدرسة الانجلوامريكية مكانة نقدية متقدمة مستقبلا، تميزها عن مدرسة عريقة ذات كشوفات ريادية هي المدرسة الفرنسية.

وصحيح أن للاحق الحق في أن يعطي لنفسه توصيفا يميزه عن السابق لكن الأهم من التوصيف هو قدرة الواصف الذي هو لاحق على أن يأتي بما هو مكافئ أو متميز عن الذي سبقه. 

وليس في دلالة الكلاسيكية أو البعدية الكلاسيكية ما يشي بسلبية التضاد لكن المدرسية تظل هي السمة الأبرز لمن يوصف بهما معا، ومن ثم يكون أمر التباري حاصلا بيداغوجيا وتاريخيا أيضا. 

ولكن ما المرجعيات التي عليها أقامت المدرسة الانجلوامريكية بنيانها، وكيف انجزته؟ 

كانت لتنظيرات الروائي الامريكي هنري جيمس أهمية خاصة عند نقاد المدرسة الانجلوامريكية عامة ونقاد السرد ما بعد الكلاسيكي خاصة ليس لأنه من المراجع التي عليها قامت نظرية الرواية حسب، وانما ايضا دلالته التاريخية على سابقية النموذج الأمريكي للنموذج الموفورولوجي الروسي في تدشين تلك النظرية. 

فمقال جيمس الموسوم (فن التخييل The Art of Fiction) نشر عام 1884، وله خصص ديفيد هيرمان دراسة مطولة ناقش فيها منظورات جيمس في الرواية بناء على ثلاثة جوانب هي: اولا/ الشخصيات القصصية ككليات عضوية. 

وثانيا/ دراستها على وفق منهج وصفي بدلا من مقاربة المنظور السردي مقاربة نصية. 

وثالثا/ التشكيك ببرتوكولات إنتاج النصوص السردية. 

وقد وصف جيمس الشخصيات على أنها صناعة لفظية لكائنات كلية وتراكيب متخيلة ولفظية عالية المستوى، هي جماع أجزائها التي تستمد مكونات تخيلها من خصائصها الوظيفية وعلاقاتها الكلية التي تشترك فيها مع غيرها.

فتغدو الرواية ذات وحدة عضوية مثل الكائن الحي متناسبة الأجزاء وأي جزء لا يبين إلا متحدا مع الأجزاء الأخرى.

في هذا السياق طرح جيمس سؤاله البلاغي: ما الشخصية وما الحدث؟ وأكد أن من غير الممكن فهم الشخصيات والأحداث بمعزل عن الحبكة التي تعيد سرد الحياة بحرية العيش كتمرين والمعنى الحقيقي لهذا التمرين هو الحرية. 

وانطلاقا من هذه الرؤية الكلية للأشياء رفض هنري جيمس التمييز بين الشكل والمحتوى، فالقصة تبدأ كفكرة ثم بالتخييل يتحدد شكلها والعكس صحيح. 

وتتطابق هذه الكلية (الجيمسية) مع توجهات أصحاب مدرسة النقد الجديد في التنظير للأدب بوصفه صناعة كليات أصلية ومنسجمة أيضا مع موفولوجيا السرد الروسية والألمانية والتشكية التي أشار إليها اوستن وارين في فصله حول التخييل السرديNarrative   Fiction of  ضمن كتاب (نظرية الأدب) وتأثر بهذه (الكلية) الامريكي كرين 1953 وتلميذه واين بوث 1961 وغيرهما من الذين وجهوا في مؤلفاتهم انتقادات لاتجاهات مماثلة في نظرية السرد أيضا.

ووجد هيرمان أن برسي لوبوك استمد نظرية الرواية في كتابه (صنعة الرواية) 1921 من أفكار هنري جيمس متخذا منه أصلا وعليه أسس قاعدة سيبني عليها فيما بعد كل من ويليك ووارين رؤاهما وتصوراتهما. 

وتتمركز هذه القاعدة على طروحات أرسطو في التخييل والمحاكاة وصنع الحبكات، وما تتكون منه كل حبكة من موتيفات هي عبارة عن عناصر تسهم في تحقيق الوحدة الكلية للعملية السردية. 

وهو ما رآه هيرمان سبقا نقديا، حققه النقاد الأرسطيون الجدد، متقدمين بعقدين من الزمان على الطروحات البنيوية الفرانكفونية ومطورين التنظيرات السلافية والأوروبية ذات الطابع اللغوي. 

وبحسب هيرمان فإن المقاربات الانجلوامريكية والبنيوية الفرنسية ظلت تسير سيرا متوازيا وبشكل مذهل ولكن بمعدلات غير متزامنة في التغيير. 

واستوحى برسي لوبوك من هنري جيمس أفكارا كثيرة، منها فكرة الوحدة الكلية في التخييل، وفكرة توزيع السرد بين الإظهار Showing أي عرض الأحداث وتمثيلها تمثيلا دراميا وبين الإخبار Telling بالوصف أو الحوار وهو أدنى من التمثيل الدرامي والتصوير المشهدي الذي فيه توصف الأشياء وتصوّر بالتساوي وبطريقة غير مباشرة فتبدو في صيغة جديدة كتقنيات محترفة للكاتب وليست منبثقة انبثاقا غامضا من وعي الشخصية. 

واختلف واين بوث عن نظيره لوبوك في تفضيل العرض على الإخبار telling داخل السرد لان به تزداد أهمية الأحداث وتتأكد صعوبة إثبات النقاء الفني في التخييل.

ولا يثير هذا القلب غرابة عند هيرمان كونه يصدر من ناقد ينتمي إلى مدرسة شيكاغو وفي الوقت نفسه يعترض على التوجه الشكلي لناقد آخر من المدرسة نفسها. 

وأعاد الامريكي الين تيت ـ وهو من الأرسطيين الجدد ـ التنظير لمفهوم الكلية وحدد لها أركانا ثلاثة هي: المؤلف واللغة والمحاكاة، وركز على المؤلف من ناحية التلفظ.

ولقد فتحت هذه المفاهيم التي تناولها الأرسطيون الجدد الباب أمام منظري السرد ما بعد الكلاسيكي فولجوا مناطق بحث جديدة، وسَّعت نطاق دراساتهم ومناقشاتهم، فواين بوث مثلا انتقل بالنظرية السردية من التركيز على الروايات والقصص القصيرة الحديثة أو بوكاشيو والملاحم الإغريقية إلى البحث عن أنواع مختلفة من السرديات. 

وهو ما شجّع بعض المنظرين الانجلوامريكيين اللاحقين على رفض الاستقلالية أو العزلة بين نظرية السرد ونظرية الرواية.